- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
عبد الحليم قنديل: الاتفاق والقنبلة
عبد الحليم قنديل: الاتفاق والقنبلة
- 4 ديسمبر 2021, 10:36:29 ص
- 552
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قد لا نثق تماما بإشارات تفاؤل صدرت عن بعض المجتمعين في فندق «باليه كوبرج» في العاصمة النمساوية فيينا، وبحديث نسب لمسؤول أوروبي عن التوافق حول ثمانين في المئة من مسودة العودة للاتفاق النووي الإيراني، الموقع أواسط 2015 في الفندق ذاته، ثم انسحبت منه أمريكا على عهد دونالد ترامب في مايو 2018، وبادلتها إيران خروجا بخروج، وتجاوزت التزاماتها في تخصيب اليورانيوم بالذات، وعطلت مفاوضات فيينا لأكثر من خمسة شهور، واستبدلت طواقم التفاوض بعد صعود المتشدد إبراهيم رئيسي لكرسي الرئاسة، خلفا للمعتدل نسبيا حسن روحاني، ووافقت أخيرا على بدء جولة التفاوض السابعة، التي تشارك بها واشنطن على نحو غير مباشر، في ما أصرت إيران على قصر الحوار المباشر عليها، وعلى وفود روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، وكلها كانت اعترضت على خروج أمريكا من الاتفاق، فيما تعهدت إدارة جو بايدن بالسعي الدبلوماسي لإحيائه.
وقبل نحو أربعة شهور، كتبت مقالا بعنوان «على شفا حرب» نشر في هذا المكان صباح السبت 7 أغسطس 2021، قلت فيه نصا «قد لا نضيف جديدا، إذا توقعنا تدحرج فرص الوصول لاتفاق مع طهران إلى نهاية عام بايدن الأول في الرئاسة، هذا إذا لم تنزلق التطورات الجارية إلى الاتجاه المعاكس، وتزيد نذر التهديد بنشوب حروب جديدة، تضع المنطقة كلها على شفا جرف مستعر» وقد جرى تنصيب بايدن رئيسا كما هو معروف في 20 يناير الماضي، ولا أحد عاقل، حتى لو كان متفائلا، يتوقع أن تصل الجولة السابعة إلى اتفاق نهائي ناجز، خصوصا أن المندوب الأمريكي المفاوض روبرت مالي، لا يبدو آملا بسرعة الوصول لاتفاق في مفاوضات، يبدو أنها ذاهبة إلى جولة ثامنة وربما تاسعة.
والسبب ببساطة، أن فجوات التفاوض تتسع، وأن إدارة بايدن، رغم تفضيلاتها الدبلوماسية المعلنة حتى تاريخه، لا تبدو مستعدة للقبول بالطلب الإيراني الملح على صيغة بعينها، منطوقها الرفع الفوري لعقوبات أمريكا على طهران، وعددها نحو ألف قرار عقوبات عبر أربعين سنة مضت، مقابل استعداد طهران للتراجع عن خطوات فك الالتزام باتفاق 2015، وكان الاتفاق قد نص على تقييد البرنامج النووي الإيراني، وخفض نسب تخصيب اليورانيوم إلى 3.67%، ونقل أطنان اليورانيوم المخصب قبلها إلى روسيا، وخفض عدد أجهزة الطرد المركزي من عشرين ألفا إلى ما يزيد قليلا على خمسة آلاف، وألا تزيد كمية اليورانيوم المخصب لدى إيران على 300 كيلوغرام، وقصر عمليات التخصيب على مفاعل «نطنز» ووقفها تماما في منشأة «فوردو» وتعديل قلب مفاعل «آراك» للماء الثقيل، بحيث لا يعود صالحا لإنتاج «بلوتونيوم» يدخل في صناعة أسلحة ذرية، وكلها التزامات ذهبت مع ريح إلغاء ترامب اعترافه بالاتفاق، وبما وفر لإيران فرصة كسر التزاماتها، وزيادة كميات اليورانيوم المخصب المحتجز لديها إلى عشرين ضعفا، واستخدام أجيال أحدث من أجهزة الطرد المركزي، ومضاعفة نسبة تخصيب اليورانيوم إلى عشرين في المئة، جرت زيادتها لاحقا إلى ستين في المئة، راكمت لها كما أعلنت 25 كيلوغراما مخصبا عند المستوى المرتفع، القابل للزيادة إلى نسبة التسعين في المئة، الكافية لإنتاج قنابل نووية، ما أثار مخاوف جدية، عززها سلوك إيران المعيق لعمليات التفتيش، التي كان متفقا عليها طبقا للبروتوكول الإضافي مع «الوكالة الدولية للطاقة النووية» التي فشل مديرها العام رافائيل جروسى في الوصول لحل وسط مع المسؤولين الإيرانيين المعنيين، وأعرب عن إحباطه بعد زيارته الأخيرة لطهران، التي رفضت إعادة تنشيط كاميرات المراقبة الدولية في منشأة «كرج» المختصة بصناعة أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطورا.
قصارى ما يمكن أن تفعله أمريكا في حال فشل وارد لمفاوضات فيينا مواصلة الضغط عبر عقوبات الاقتصاد، وقد بلغت مستوياتها القصوى بدون نجاح مضمون
ومحصلة ما جرى ويجري، أن إيران قفزت إلى الحافة النووية، واكتسبت المعرفة الضرورية، وصار بوسعها عمليا إنتاج قنابل ذرية، تردع فرص تهديدها عسكريا من قبل أمريكا أو إسرائيل، فهي لا تحتاج سوى وقت يتقلص لإنجاز المهمة النووية، قد يكون بضعة شهور، وقد يصل إلى عامين في أكثر التقديرات اعتدالا، رغم الكلام المعلن إيرانيا عن فتوى تحريم صناعة القنبلة الذرية، والفتاوى الإيرانية الدينية قابلة للتغيير طبعا، حسب المصالح الدنيوية
وهو ما يجعل إيران أكثر تشددا في المفاوضات غير المباشرة مع واشنطن، وأكثر تصميما على رعاية أولوياتها، وحشر المفاوض الأمريكي في زاوية حرجة، وطرح مطالب الحد الأقصى عليه، من نوع اشتراط الرفع الكلي الفوري القابل للتحقق منه، للعقوبات الأمريكية، إضافة لضمان من الأمريكيين بعدم العودة لإلغاء الاتفاق مجددا، وهو ما لا تقدر عليه إدارة بايدن حتى لو رغبت، فليس بوسعها أن تلزم إدارة لاحقة بالحفاظ على الاتفاق، إلا لو جرت إحالة الاتفاق لتصديق من الكونغرس، وهو ما يبدو صعبا لحد الاستحالة، فلا تتوافر لبايدن أغلبية تأييد كافية لاتفاق يرضى إيران، والكونغرس بأغلبيته، ومجلساه النواب والشيوخ، خاضع بالجملة لنفوذ «اللوبي الإسرائيلي» وإسرائيل رافضة قطعيا لإنجاز وإحياء الاتفاق الإيراني، ثم إن الكونغرس ينتظر انتخابات تجديد نصفي في نوفمبر 2022، ترجح مؤشراتها فرص تراجع حظوظ إدارة بايدن والديمقراطيين، مع عودة نفوذ ترامب للانتعاش بقوة في الساحة السياسية، ودعمه الشخصي الصاخب لمرشحين جمهوريين من معسكره، وهزيمة الديمقراطيين في انتخابات محلية جزئية، جرت مؤخرا في بعض الولايات، بما قد يؤدى إلى تعميق أزمة بايدن، الذي أبدى رغبته في خوض انتخابات الرئاسة المقبلة أواخر 2024، ومن دون ضمان لفرص فوزه إذا ترشح ترامب مجددا، وكلها هواجس قد تغل يد بايدن المرتعشة، وقد لا تحفزه على المجازفة بتوقيع اتفاق على النحو الذي تريده إيران، فأولوياته ومصالحه هناك في واشنطن لا في طهران.
ورغم ما يبدو من علامات إرهاق منهك للوضع الاقتصادي في إيران، وتفاقم ظواهر السخط الاجتماعي، وتزايد مظاهرات الغاضبين، ونذر الخطر الداخلي، إلا أن طهران تتجاهل ذلك كله غالبا، وتصر على مطلب إلغاء العقوبات الأمريكية كلها، وبصورة فورية ناجزة، وهو ما يزيد من مصاعب صانع القرار الأمريكي، وقد حاولت واشنطن الالتفاف على المأزق المستحكم، وطرحت صيغة «الأقل مقابل الأقل» أي تجميد إيران لعمليات تخصيب اليورانيوم، مقابل رفع أمريكي محدود لبعض العقوبات، وهو ما رفضته طهران، غم احتياجها الملح لاسترداد مئات مليارات الدولارات المحتجزة بالعقوبات، وللعودة إلى حرية تصدير بترولها وغازها الطبيعي، فبوسع طهران أن تواصل خرق جدار العقوبات، كما تعودت لزمن طويل، ثم إنها صارت تثق أكثر في جدوى الضغط على الموقف الأمريكي، وقد نجحت قبلها في شطب مطالب إدراج صواريخها الباليستية المتطورة وتوسعها الإقليمي على موائد التفاوض الجاري منذ بدء ولاية بايدن، وهو ما سلمت به واشنطن، ربما على أمل الحد من تحول إيران للتحالف مع روسيا ومع الصين بالذات، وقد انضمت طهران رسميا إلى «منظمة شنغهاي للتعاون» قبل شهور، وقد تعول على فرص لتنفيذ اتفاقها المبدئي مع بكين، وكسب استثمارات صينية موعودة بقيمة 400 مليار دولار خلال ربع قرن مقبل، مقابل مزايا تفضيلية لبكين وموسكو في موانئ إيران واقتصادها وواردات سلاحها، وهذا أكثر ما يثير حفيظة أمريكا، التي تعتبر عداوتها ومنافستها للصين أولوية مطلقة، تفوق الرغبة بإعاقة احتمالات تخطى إيران للعتبة النووية، وانضمامها بالأمر الواقع لدول النادي النووي، وعلى طريقة ما فعلت كوريا الشمالية، المحتمية بالجوار الصيني الحارس.
وقد لا تبالي واشنطن بغضب دول الجوار الخليجي لإيران، ولا لصرخاتها الداعية لوقف تهاون واشنطن مع إيران، والتملص الظاهر من ضمانات الحماية الأمريكية المتوارثة لعروش عواصم الخليج العربية، فليس واردا على الأغلب، أن تقرر أمريكا شن حرب واسعة على إيران، وهي لم تفعلها حتى في عهد ترامب الذي كان مهووسا بغرف المال الخليجي، وقصارى ما يمكن أن تفعله أمريكا في حال فشل وارد لمفاوضات إحياء الاتفاق النووي، أن تواصل الضغط عبر عقوبات الاقتصاد، وقد بلغت مستوياتها القصوى بدون نجاح مضمون، أو أن تدير حروبا إلكترونية «سيبرانية» وعمليات استخباراتية ضد المنشآت النووية الإيرانية، أو أن تسمح لربيبتها «إسرائيل» بشن هجمات عسكرية داخل إيران نفسها، وهو ما تجاهر به «تل أبيب» وتتحدث عن تكلفة خططه البالغة مليارا ونصف المليار دولار، وتبدي دول خليجية استعدادها لدفع المبلغ مضاعفا، وإلى غير ذلك مما تسميه السياسة الأمريكية بالخطة «ب» التي قد تصل في حدها الأقصى إلى شن ضربات انتقائية، وكلها صور حرب مخففة، قد لا تردع إيران، بقدر ما تحفزها على اجتياز نهائي للعتبة النووية.