- ℃ 11 تركيا
- 23 ديسمبر 2024
عبد المنعم سعيد يكتب: ثورة فى قوى الإنتاج
عبد المنعم سعيد يكتب: ثورة فى قوى الإنتاج
- 4 يونيو 2023, 3:41:08 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كان الزمن هو ٢٩ سبتمبر ١٩٧٧ عندما وصلت إلى مطار «أوهير» في مدينة «شيكاغو» الواقعة في ولاية «إيلينوى» في الولايات المتحدة. وعلى مدى السنوات الخمس التالية اندرجت فيما يندرج إليه الطلاب من أجل الحصول على درجتى الماجستير والدكتوراه من عمل شاق تضمن عملًا لا يقل عن خمس عشرة ساعة في اليوم ما بين الدراسة والتدريس، والبحث والعمل، وأمور أخرى يقع فيها الإطلالة على التجربة الأمريكية.
كنت قبل سفرى قد خضت تجربة الماركسية بحثًا وقراءة، ومنها علمت الدور الجوهرى الذي تلعبه «قوى الإنتاج»، أو للتبسيط التكنولوجيا، في تطور المجتمعات والأمم. ولكن الاحتكاك المباشر بقوى الإنتاج لم يبدأ إلا بعد كتابة البحوث الأولى في الدراسة والتى كان لابد من كتابتها على الآلة الكاتبة؛ ولم يكن هناك بد من الكتابة باليد، ثم بعد ذلك استئجار من سيقوم بالمهمة.
كان الأمر مكلفًا من الناحية المادية، ولكن الصدمة جاءت عندما عرف أستاذى بالأمر، فما كان منه إلا القول بعد الكثير من المدح لقدراتى التحليلية، بأننى «لم ألحق بعد بالثورة الصناعية الأولى».
كانت الآلة الكاتبة من منتجات هذه الثورة، ولكنها باتت أكثر تعقيدًا مع مادة الإحصاء المرتبطة باستخدام الكمبيوتر البدائى وقتها والتى كان فيها معرفة العلاقات الارتباطية بين ظواهر مختلفة تجمعت لها بيانات إحصائية.
كان الأمر صعبًا من زاوية أن تفريغ المعلومات وما عليها من تعليقات كان يتم كتابته من خلال «تثقيب» أوراق مقواة خاصة، يجرى بعد ذلك وضعها مثل أوراق «الكوتشينة» في الكمبيوتر الذي يتولى تسجيلها وكتابة نتائجها التي تحدد مدى قوة أو ضعف العلاقة. الكارثة الكبرى في ذلك أن الآلة العجيبة لم تكن تقبل خطأ من أي نوع، لا نقطة ولا فاصلة، ولا أيًّا من الحروف أو العلامات، فإذا ما كان منها واحدًا، فقد كان لابد أن تبدأ العملية كلها من جديد.
مر الموضوع كله في النهاية بسلام حتى جاء وقت الانتهاء من رسالة الدكتوراه في مطلع الثمانينيات من القرن الماضى حيث بدأت الأخبار تتوالى عن ظهور «الكمبيوتر الشخصى» وعن الصراع الذي بدأ في البزوغ ما بين شركتى «آبل» و«مايكروسوفت». كانت الآلة العجيبة تتضمن قفزة كبيرة في تشغيل الكلمة Word Processing مع وجود «شاشة» يمكن عن طريقها التصحيح والتغيير.
لم يكن في مقدرتى شراء الجهاز العجيب، ولكنه كان ممكنًا استئجارها وكتابة الرسالة مع توقيعها في نسخة على «أسطوانات» تشبه تلك التي تسجل عليها الموسيقى والأغانى. وبعد أن قمت بشحنها إلى القاهرة، لم يكن مدهشًا كثيرًا أن التسليم في قرية بضائع مطار القاهرة الدولى تضمن زيارة إلى «رقابة المصنفات الفنية» التي صدمت فيما رأت أنه لا يحتوى على نغم وإنما كلام.
وتطلب الأمر عشر سنوات لكى أمتلك «الكمبيوتر» الشخصى لكى تبدأ مرحلة جديدة في الحياة تشبه تلك التي يعرفها الإنسان بعد تعليمه قيادة السيارة بما يجده من حجم الحرية والاستفادة من الوقت والقيام بالواجبات الاجتماعية في ذات الوقت. وإذا كانت مهنة الكاتب أن يكتب، وإذا كانت الكتابة تعنى الحصول على المعلومات وتخزينها ليس في ملفات عتيقة، وإنما في ذاكرة تتراكم، وتنتقل مع الإنسان عبر القارات.
بعد وقت لم يعد الكمبيوتر محض آلة للكتابة؛ وإنما واحدة من قوى الإنتاج ليس فقط لفرد واحد، وإنما للعالم كله. أذكر أن مجلة «التايم» الأمريكية التي كانت تضع في آخر العام صورة «شخصية العام» على الغلاف وضعت «الكمبيوتر الشخصى» على غلافها احتفاء واحتفالًا.
من الصعب جدًّا استحضار السرعة التي جرى بها التغيير خاصة بعد التغييرات التي ألمت بمؤسسة الأهرام وبعد قيادتى لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
قبلها كان د. حسن أبوطالب هو الذي قاد الثورة التكنولوجية في المركز عندما كتب أول «تقدير موقف» لقيام العراق بغزو الكويت على «كمبيوتر» «صخر» وإرساله مطبوعًا إلى من يهمه الأمر في الدولة المصرية.
دخلت قوى الإنتاج الجديدة إلى قلب ساحة الصراع الكبير في الشرق الأوسط؛ ولكن ما كان يهمنا وقتها هو الثورة التي أتى بها الكمبيوتر في عمليات إنتاج «التقرير الاستراتيجى العربى» الذي كان يحتاج ثلاثة شهور للطباعة كل عام، فإذا بالزمن يتراجع لأسبوع. أصبح المركز قادرًا على إنتاج الكثير من المطبوعات، وتخزينها، وتسويقها؛ والخلاصة أننا أصبحنا على شفا قفزة كبيرة للإنسانية.
خلال العقدين التاليين تقلص حجم الكمبيوتر، وأصبح أنواعًا وأحجامًا، وفجأة ظهر «الموبايل» ووصل إلى ما وصلنا إليه الآن عندما أصبحنا أمام قفزة كبرى أخرى: الذكاء الاصطناعى.