- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
غضب الضواحي: ما الذي تكشف عنه الاحتجاجات العنيفة في فرنسا؟
غضب الضواحي: ما الذي تكشف عنه الاحتجاجات العنيفة في فرنسا؟
- 5 يوليو 2023, 5:00:04 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تستحوذ موجة الاضطرابات، التي اجتاحت عدة مدن فرنسية منذ وفاة الشاب نائل في نانتير، على اهتمام خاص من قِبل كافة الأوساط التحليلية، فيما اعتبرته حراكاً يفوق مجرد اضطرابات لحظية ناتجة عن حادث عابر، إلى لحظة مفرقية تعكس المشكلات المزمنة لفرنسا من زوايا الأمن والثقافة والهجرة، وما قد يُفرزه ذلك من توقعات بحدوث تغير جذري.
يعود أصل هذه الاضطرابات إلى يوم 27 يونيو 2023، حينما قُتل نائل مرزوق – وهو شاب فرنسي يبلغ من العمر 17 عاماً من أصل جزائري – على يد ضابط شرطة بعد مطاردة سيارة في نانتير، إحدى ضواحي باريس. وبالرغم من اعتقال السلطات الشرطيَّ الذي أطلق النار على نائل بتهمة “القتل العمد على يد شخص ذي سلطة”، اشتعلت احتجاجات وأعمال شغب واسعة النطاق. في السياق ذاته، تُظهِر القراءة لمظاهر الأزمة الحالية وانعكاساتها المحتملة الاختلالات العميقة التي يعاني منها المجتمع الفرنسي، وفي الوقت نفسه تكشف مدى قدرته على التكيف مع آثارها.
تصعيد الشارع
من الأهمية بمكان تناول حادث مقتل “نائل مرزوق” في سياق الإطار العام الذي أدى إشعاله، والمظاهر الأخرى المرتبطة بحدوثه؛ وذلك حتى يتسنى استكشاف عمق واتساع الاختلالات المجتمعية الراهنة التي يعاني منها المجتمع الفرنسي. وهكذا يمكن القول إن الأزمة الراهنة تستدعي عدداً من الأبعاد الرئيسية:
1- تصاعد الجدل حول السلطة القانونية للشرطة: بوجه عام، شهدت فرنسا ارتفاعاً في عدد حوادث العنف التي تسببت بها الشرطة في السنوات التي سبقت الحادث المشار إليه. ويرجع هذا في الأساس إلى صدور المادة 435.1 من قانون الأمن الداخلي ودخولها حيز التنفيذ عام 2017، التي تسمح للشرطة بإطلاق النار على أي سيارة قد تكسر إشارة التوقف الحمراء، إذا كان السائق يُعرِّض الركاب أو المارة للخطر. وتُعَد هذه الحادثة هي ثالث حادث إطلاق نار في فرنسا ارتباطاً بهذا القانون خلال عام 2023.
وفي عام 2020، كانت هناك ثلاث حالات وفاة من النوع نفسه، تلاها اثنتان في عام 2021، و13 حالة في عام 2022. ونظراً إلى كون أغلب ضحايا هذه الحوادث من السود أو المغاربيين، فإن مزاعم العنصرية الممنهجة داخل نظام الشرطة الفرنسي كسبت أرضية ومصداقية كبيرتَين.
2- تزايد الانتقادات لتوسُّع استخدام القوة الشرطية: مع تصاعد حدة ظاهرة استخدام القوة من قِبل أجهزة الأمن، بدأت عدد من المنظمات والدول تسلط الضوء عليها؛ ففي مايو 2023، انتقد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قوات الشرطة في فرنسا، وحث على تنفيذ إجراءات مهمة لمعالجة الاستخدام المفرط للقوة في التظاهرات، وقد أيَّد ذلك مجموعة من وفود الدول الأوروبية وعلى رأسها السويد.
أما داخليّاً، ونتيجةَ تصاعد موجة الاحتجاجات الرافضة، عمدت الحكومة الفرنسية إلى التقليل من أهمية حالات عنف الشرطة، بل إنها في بعض الأحيان تتجنَّب استخدام المصطلح نفسه، كما عارضت جمعيات الشرطة إلغاء أو مراجعة قانون 2017. ونتيجةً لهذه الضغوط الداخلية والخارجية، بدأت الحكومة الفرنسية تُوجِّه لائحة اتهام إلى نحو خمسة ضباط فيما يتعلق بحوادث إطلاق النار المذكورة أعلاه.
3- توسُّع نطاق أعمال العنف: شهدت الأيام التي تلت حادث مقتل “نائل مرزوق” تصاعداً في منحى العنف والاضطرابات الداخلية. وبالرغم من اعتقال السلطات الشرطيَّ الذي أطلق النار على نائل بتهمة “القتل العمد على يد شخص ذي سلطة”، لم تهدأ حدة الغضب في الشارع، وتوسَّع نطاق الاحتجاجات، وتم خلالها مهاجمة رموز سلطة الدولة، مثل قاعات المدينة، والمدارس، ومراكز الشرطة، فضلاً عن أعمال تخريب طالت المباني الأخرى، مثل محلات السوبر ماركت، ومراكز التسوق، وحرق السيارات وصناديق القمامة. وبحسب وزارة الداخلية الفرنسية، تم إحراق أكثر من 1350 سيارة، وتم اعتقال أكثر من 1300 شخص على خلفية هذه الأحداث، كما أشارت تقارير إلى وقوع انفجار في ميناء مرسيليا القديم، يوم 30 يونيو 2023. كما نشرت بعض المنصات الإعلامية مقطع فيديو يُظهِر الأضرار التي لحقت بمكتبة ألكازار في مارسيليا نتيجةً لتعرُّضها للتخريب.
4- الامتداد الجغرافي للاحتجاجات العنيفة: وقعت الاحتجاجات العنيفة داخل مناطق مختلفة في فرنسا؛ فعلى سبيل المثال، شهدت باريس النسبة الكبرى من التصعيد وتحرُّكات الشارع؛ حيث وقعت الاضطرابات في مناطق وسط باريس، أوبيرفيلييه، كلامارت، كليشي سوس بوا، إيسون، مونتروي، نانتير، فيري شاتيلون، كما حدثت اضطرابات في مناطق مختلفة مثل أميان، أنيسي، بوردو، ديجون، غرونوبل، ليل، ليون، مارسيليا، نانت، سانت إتيان، تولوز.
واللافت أيضاً أن هذه الاحتجاجات امتدَّت إلى بعض المناطق خارج فرنسا، على غرار بروكسل في بلجيكا، وشهدت سويسرا أيضاً، يوم 1 يوليو الجاري، تظاهرات وأعمال شغب شارك فيها أكثر من 100 شخص. وبحسب الشرطة السويسرية، تداول المتظاهرون دعوات للنزول إلى الشوارع على مواقع التواصل الاجتماعي، مؤكدةً أن المتظاهرين استلهموا من أعمال الشغب في فرنسا المجاورة. ولا يمكن إغفال أن هذا الامتداد الجغرافي للاحتجاجات يمثل عاملَ ضغطٍ على السلطة الفرنسية، وقد يؤدي إلى تصاعد المخاوف من إمكانية خروج الأمر عن السيطرة بالرغم من إعلان السلطات أن الاحتجاجات بدأت تتراجع حدتها.
5- مشاركة ملحوظة من الشباب في الاحتجاجات: لُوحظ خلال الأزمة الراهنة وتحركات الشارع ضد السلطة أن هناك نسبة كبيرة من الشباب وصغار السن يشاركون في الاحتجاجات؛ إذ كشفت السلطات الفرنسية أن عدداً لا بأس به من المشاركين في الاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ أيام على خلفية مقتل الشاب نائل برصاص شرطي أثناء محاولته الفرار من عملية تدقيق مروري، هم من المراهقين الصغار.
وحمَّل الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” بعض منصات وسائل التواصل الاجتماعي المسؤولية عن ميل هؤلاء المراهقين إلى تنظيم “تجمعات عنيفة”؛ حيث أوقفت السلطات المحلية أثناء هذه الاحتجاجات أعداداً كبيرة من “الشباب، وأحياناً أوقفت فتيةً صغاراً جدّاً”، حسب الرئيس الفرنسي.
6- تبني الجهات الرسمية موقفاً متحفظاً: عقب حادث مقتل الشاب “نائل”، أعلن الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” أن الحادث “لا يُغتفَر، ولا يمكن نسيانُه”، مضيفاً أن الحادث “حرَّك الأمة بأسرها”. وقد لُوحظ أن تصريحات ماكرون كانت بمنزلة انتقاد نادر لفرض القانون الفرنسي من قِبل المسؤولين الحكوميين، في انعكاس لحجم حالة السخط والغضب التي تُواجِه المجتمع، وعدم كونه مُهيأً لأي نوع من المُبرِّرات. على التوازي، وقف نواب الجمعية الوطنية الفرنسية دقيقةَ صمتٍ حداداً على الضحية، في مشهد يعكس دعماً غير عادي من النواب الفرنسيين، على عكس مواقفهم المعتادة المترددة بشأن انتقاد الشرطة في البلاد. وعزا البعض ذلك إلى تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، التي سمحت بنشر مقاطع فيديو للاشتباكات مع الشرطة الفرنسية في عدد من المدن.
7- انتهاز أحزاب المعارَضة الفرنسية الفرصة: استغلَّت أحزاب المعارضة موقف التردُّد النسبي الذي بدت عليه الحكومة الفرنسية وائتلاف الأغلبية في البرلمان؛ حيث أعرب إريك سيوتي رئيس حزب الجمهوريين المحافِظ، عن دعمه للشرطة، واصفاً إياهم بالمدافعين عن الأمن الجماعي، وشجب الاضطرابات التي تلت ذلك، ووصفها بأنها غير مُبرَّرة. ووصفت السياسية اليمينية المتطرفة “مارين لوبان” وزعيمة حزب التجمع الوطني تصريحات ماكرون بأنها “مُبالَغ فيها” و “غير مسؤولة”، مضيفةً أن “الرئيس مستعدٌّ لتجاهل المبادئ الدستورية في محاولةٍ لإخماد حريق محتمل”.
انعكاسات محتملة
يترتَّب على حالة الاضطراب السالفة الذكر مجموعة من الانعكاسات المحتملة، بدأ بعضها في التبلور، وهو ما يمكن تناولُه على النحو التالي:
1- احتلال قضية العنصرية للصدارة في المشهد الفرنسي: من المُلاحَظ أن مثل هذه الأحداث جرى التعامل معها ليس من منظور أمني في الأساس، بل من منظور اجتماعي يُعيد على السطح أولوية مسألة “العنصرية”؛ حيث رفضت الشرطة عدداً من طلبات التظاهر الخاصة بالتنديد بالعنصرية، بل حل جهاز الشرطة. ويتزامن ذلك مع القيود التي وُضِعت على حرية الحركة – والتي وصلت إلى حظر تجول في بعض الحالات – في عدد من المدن الفرنسية الهامة (مثل باريس، ليون، مارسيليا، بوردو)؛ وذلك إدراكاً من الحكومة الفرنسية أن الاضطراب المعمم في مثل هذه المسألة من شأنه أن يضرب الاستقرار المجتمعي في مقتل.
2- مخاطر حشد القوى الشبابية ضد الحكومة: في تظاهرات السترات الصفراء، وعلى الرغم من الاضطرابات الناتجة عنها، لم يكن التخوف الحكومي قد وصل إلى ما وصل إليه حالياً؛ نظراً إلى الطابع النقابي المُنظَّم لهذه التظاهرات، ووجود لغة حوار وتفاوض بين الحكومة وممثلي النقابات العمالية المتظاهرة، بما يُمكِّن الأولى من التنبُّؤ بمآلات الأزمة آنذاك.
أما في الحالة الحالية، ونتيجةً لكون جزء كبير من المتورطين في أعمال العنف (أو الذين تم اعتقالهم) من الشباب الصغار الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و17 عاماً، فإن احتمالات تصعيد العنف تبدو أكثر ترجيحاً، وغياب الطابع التنظيمي للتظاهرات تدفع الشرطة إلى اعتقال عدد واسع من المتظاهرين باعتبار ذلك نوعاً من أنواع الردع الموسع؛ لذلك تضع الحالة الراهنة أجهزة الأمن الفرنسية في حالة اختبار لمدى جاهزيتها في التعامل مع هذه الحوادث التي لم تتكرر منذ الاضطرابات الطلابية في 2005.
3- تحفيز عودة الاستقطاب اليميني اليساري من جديد: من المُحتمَل أن تؤدي هذه الأحداث إلى تحفيز عودة الاستقطاب اليميني اليساري التقليدي في فرنسا؛ وذلك عقب خسارته جزءاً كبيراً من أرضيته خلال السنوات الست الماضية التي فاز فيها حزب “الجمهورية للأمام” اليميني الوسطي والرئيس “ماكرون” بالانتخابات المتتالية. ونتيجةً لبزوغ قضية العنصرية من جديد، وما يرتبط بها من إشكالات ذات صلة، مثل الهجرة والإرهاب وأزمة الهوية، فمن المتوقع أن يعزز ذلك وضعية الأحزاب اليمينية لدى فئات واسعة من الشعب الفرنسي (كبار السن، التنفيذيون الحاليون والسابقون، رجال الأعمال، المحافظون) من جانب، ومن جانب آخر يُحتمَل أن يُعزز وضعية الأفكار اليسارية أو التقديمة لدى قطاع نشط بحكم الطبيعة، وهم الشباب في سن التعليم الأساسي والتعليم الجامعي.
وفي مقابل تبني الوسط مواقف مترددة في مثل هذه الأزمات المفصلية – بحكم عدم تبلور أجندته تجاهها – فإن المجتمع الفرنسي قد يبدو أكثر تعطشاً إلى نوع من الوضوح بشأنها؛ ما يُضفي زخماً على التنافس اليميني اليساري التقليدي، ربما يستمر لحين الانتخابات القادمة.
4- التخوُّف من الأهداف الحقيقية للاحتجاجات: بخلاف التظاهرات الفئوية التي تلجأ إلى أعمال عنف أو تعطيل للخدمات العامة لدفع الحكومة إلى الاستجابة لمطالبها، فإن أعمال العنف عقب الواقعة الحالية تتسم بغموض الأهداف، أو بمعنى أصح بطابعها التدميري العام الذي يعكس درجة من السخط غير المحكوم بمطالب محددة؛ فقد مثَّل استهداف المكتبات والمراكز الثقافية والمدارس جرس إنذار بشأن وصول درجة السخط إلى الانقلاب على رموز التنوير نفسها، وكأنه رفض للأسس الفلسفية والمجتمعية التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية من الأساس، وهو ما يترتَّب عليه غياب الآليات التصحيحية التفاوضية، ومثول القمع بديلاً أوحد أمام الحكومة لإعادة فرض الأمن والنظام.
5- تغذية ثنائية “المركز–الأطراف”: بدأت شرارة هذه الاضطرابات المُوسَّعة من إحدى ضواحي العاصمة باريس، وانتشرت في عدد من الضواحي الأخرى قبل الانتقال إلى المدن المركزية والرئيسية. ويُشير هذا الأمر إلى انعكاسَين محتملَين هامَّين وهما: تغذية هذه الاحتجاجات لشعور الدونية الذي طالما راود سكان الضواحي الفرنسية مقارنةً بالمدن المركزية، بما لذلك من آثار على زيادة حدة الاستقطاب المجتمعي، ومن جهة أخرى تعزيز ظاهرة تصدير الاضطراب من الأطراف إلى المركز لإكسابه الاهتمام اللازم، وما يُرتِّبه ذلك من حالة استنفار وعدم استقرار في المدن الفرنسية الرئيسية.
6- استغلال بعض القوى الدولية للأزمة: من المُرتقَب أن تُفرِز حالة الاضطراب الداخلي غير المسبوق في فرنسا منذ سنوات، نوعاً من الاستنفار لدى بعض الدول، في محاولةٍ منها لاستغلال الموقف لصالحها؛ ففي حين فضَّلت بكين نهج عدم الانتقاد العلني، رغبةً منها في كسب ثقة الرئيس الفرنسي في وقت أزمة – خاصةً عقب زيارة الأخير إلى بكين – اتجهت موسكو لنهج الانتقاد الصارخ للموقف الداخلي، ووصفه بالكاشف لهشاشة النظم الغربية.
الخلاصة: تُعتبَر الأزمة الحالية في فرنسا نتاجاً لإرث سابق، تطوَّرت وتنامت حِدَّته عبر مرور الوقت، إلا أن انعكاساته لم تُبيِّن فقط حجم التحديات الداخلية التي تُواجِه المجتمع الفرنسي – والتي تبدو واضحةً إلى حد بعيد – بل تكشف أيضاً عن مقدار التحدي الماثل أمام الحكومة، الذي يفوق في نطاقه وحِدَّته أيَّ اختبار آخر مر به “ماكرون” منذ بداية فترة رئاسته الأولى.