- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
Overseas Security: ما أبعاد الدور الأمني للصين في أفريقيا؟
Overseas Security: ما أبعاد الدور الأمني للصين في أفريقيا؟
- 5 يوليو 2023, 4:58:14 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ثمة فرضية يبدو أنها باتت تُحرِّك بكين في السنوات الأخيرة، وهي أن المصالح الاقتصادية في أفريقيا تحتاج إلى التأمين، وخصوصاً مع تكرار حوادث تعرُّض عمال صينيين في دول أفريقية مختلفة للاعتداءات والقتل. وفي هذا الصدد، يعد الدور الأمني للصين أحد محددات عناصر منظومة التفاعلات الذاتية لها في القارة الأفريقية؛ فعلى الرغم من جوهرية البعد الاقتصادي في استراتيجية التحرك الصيني حيال أفريقيا، وخاصةً منذ مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة، فإنها تُحاوِل أن تقدم نفسها شريكاً عسكرياً عبر تعزيز آلية الدبلوماسية العسكرية بأدواتها المختلفة، سواء في صورة الزيارات الرسمية للمسؤولين الرفيعي المستوى، أو من خلال إبرام اتفاقيات أمنية مشتركة أو تدريبات عسكرية مع شركائها في القارة، وتعتمد في الترويج لهذا النهج على تكريس مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية؛ وذلك على نحو مغاير للعديد من القوى الدولية المنافِسة لها في القارة، وهو ما يخلق قاعدة انتشار لتحركاتها وأنشطتها على الصعيد الأمني بين الدول الأفريقية. ويمكن القول بوجود العديد من الأبعاد المؤثرة والعوامل المحفزة على الدور الأمني للصين في أفريقيا، وهو ما قد يخلق معه جملة من التحديات الملحة في الواقع الأفريقي.
أبعاد مؤثرة
ثمة العديد من الأبعاد المؤثرة والناظمة للدور الأمني للصين في القارة الأفريقية خلال الآونة الأخيرة، وهي الأبعاد المتمثلة فيما يلي:
1– المشاركة في البعثات الأممية لحفظ السلم في أفريقيا: تشارك الصين في كافة بعثات الأمم المتحدة الجارية “الحالية” لحفظ السلم في أفريقيا، البالغ عددها (6) بعثات من إجمالي (12) بعثة على مستوى العالم، ولا يستثنى من ذلك غير بعثة واحدة هي “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في جمهورية أفريقيا الوسطى” (MINUSCA)، وتمثل مشاركتها في البعثات الأممية في القارة الأفريقية أكثر من نصف عدد مشاركاتها في مجمل البعثات الأممية لحفظ السلم البالغ عددها (9) بعثات.
ويبلغ إجمالي مساهمتها بعناصر في البعثات الأممية الجارية لحفظ السلم في أفريقيا نحو (1894) عنصراً، وهو ما يمثل نحو (83.3%) من إجمالي عناصرها البالغة نحو (2773) عنصراً؛ وذلك في نهاية أبريل 2023. وتحتل الصين الترتيب العاشر عالمياً في هذا الشأن في التاريخ ذاته، كما تأتي في الترتيب الثاني فيما يتعلق بتمويل ميزانية البعثات الأممية لحفظ السلم بعد الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث ساهمت بنحو (15.21%) من الميزانية خلال الفترة (2020–2021).
وتعد مساهمة الصين في إطار “بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان” (UNMISS) هي الأكبر من حيث عدد العناصر المشاركة؛ حيث تشارك بنحو (1051) عنصراً في إطارها، تليها “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي”، التي تساهم في إطارها بنحو (406) عناصر، وبعد ذلك تأتي مساهمتها في إطار “بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية” (MONUSCO)، التي تشارك فيها بنحو (277) عنصراً، ويلي ذلك مشاركتها في إطار “قوة الأمم المتحدة الأمنية المؤقتة لأبيي” (UNISFA) بنحو (152) عنصراً، وفي الأخير تشارك بنحو (8) عناصر في إطار “بعثة الأمم المتحدة للاستفتاء في الصحراء الغربية” (MINURSO).
2– تأسيس قاعدة عسكرية صينية في أفريقيا: أنشأت الصين قاعدة عسكرية في جيبوتي في أغسطس 2017، وهي القاعدة التي تعد أولى القواعد العسكرية لها في أفريقيا لدعم القوات البحرية لجيش التحرير الشعبي الصيني People’s Liberation Army Navy (PLAN)، وتشتمل هذه القاعدة على ثكنات عسكرية (Barracks) ومناطق ممهدة وثمانية مواقع مخصصة للطائرات المروحية (Hangers) وطائرات بدون طيار unmanned aerial vehicle (UAVs) ومنشآت بحرية (Naval Facilities)، وقد استمر التوسع بها منذ تأسيسها من خلال إنشاء رصيف بحري بمساحة (450م) يمكنه استيعاب الأساطيل البحرية، بما في ذلك السفن الحربية الضخمة، كما نظمت الصين تدريبات عسكرية حية عقب افتتاح هذه القاعدة. وتشير التقديرات إلى إمكانية استيعاب هذه القاعدة عدة آلاف من القوات، كما تشير إلى وجود عدد كبير من المنشآت الكائنة تحت الأرض؛ وذلك على مساحة تبلغ نحو (23) ألف كم2، وتدفع الصين نحو (20) مليون دولار سنوياً لجيبوتي عقد إيجار مدته عشر سنوات مقابل الانتفاع من القاعدة العسكرية البالغة مساحتها (36) هكتاراً.
ويمكن القول بوجود مجموعة من الأسباب التي دفعت إلى امتلاك الصين هذه القاعدة العسكرية، ومنها كون جيبوتي تقدم فرصة ذهبية للاستثمار الصيني في الخارج وللمصالح الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؛ حيث تمر نسبة كبيرة من تجارة الصين مع الاتحاد الأوروبي عبر خليج عدن التي تقدر قيمتها بأكثر من مليار دولار في اليوم، في حين تمر نسبة (40%) من إجمالي واردات الصين النفطية عبر المحيط الهندي، ومن شأن وجود قاعدة صينية في جيبوتي أن يُتيح زيادة التجارة عبر خليج عدن والبحر الأحمر.
كما أن هذه القاعدة تنظر إليها الحكومة الصينية باعتبارها وسيلة لقيادة الدبلوماسية البحرية، ولا سيما في ضوء الدور المحوري لجيبوتي في الطريق البحري لمبادرة “الحزام والطريق”. ويُضاف
إلى ما سبق كون هذه قاعدة يُنظَر إليها كنقطة قوة ودعم لوجستي استراتيجية انطلاقاً من دورها في دعم قدرات العسكرية للصينية بشأن فرض القوة البعيدة المدى، وكونها تشكل جزءاً من شبكة نقاط القوة الاستراتيجية للصين؛ وذلك من خلال استراتيجية “سلسلة اللآلئ الصينية”، التي تمثل كل لؤلؤة فيها مشروع ميناء على ساحل المحيط الهندي.
3– تقديم تدريبات للضباط الأفارقة في المدراس الصينية: يتدرب ضباط الشرطة الأفارقة في ثلاثة أنواع من المدارس الصينية؛ أما الأول فيتمثل في أكاديميات الشرطة المناطقية، من قبيل كلية الشرطة “شاندونج” وكلية الشرطة الشعبية في بكين وكلية شرطة “تشجيانج” وكلية شرطة “فوجيان”، بينما يتمثل الثاني في الأكاديميات العليا، من قبيل جامعة الأمن العام الشعبية في الصين وأكاديمية الشرطة المسلحة الشعبية الصينية، وجامعة الشرطة الشعبية الصينية، في حين يكمن الثالث في المدارس المتخصصة، من قبيل كلية القيادة العليا للشرطة في “بكين” وكلية الشرطة الخاصة في “بكين” وأكاديمية شرطة السكك الحديدية في “شنجهاي” وأكاديمية الشرطة البحرية الصينية في “تشجيانج” وأكاديمية القوات المسلحة الشعبية الصينية في “هيبي” وجامعة الطيران المدني للطيران في الصين في “سيتشوان”.
كما أن هناك ما لا يقل عن (20) دولة أفريقية لديها علاقات مع كليات الشرطة الخاصة التي تُجري تدريبات على مكافحة الإرهاب؛ فعلى سبيل المثال، قامت كلية شرطة “فوجيان” بتدريب الحرس الرئاسي لجمهورية أفريقيا الوسطى، وأطلقت كلية شرطة “فوجيان” برنامجاً تدريبياً في جنوب أفريقيا لقسم شرطة مدينة “جوهانسبرج” في عام 2019، وتم إطلاق برنامج مشترك بين وزارة الداخلية والسلطات المحلية الجزائرية والأكاديمية الصينية للحكم بتخريج أكثر من (400) من أفراد الشرطة وإنفاذ القانون وموظفي الخدمة المدنية الجزائرية بين عامي 2015 و2018، كما أطلقت كينيا برنامجاً لإرسال (400) من أفراد الشرطة والقوات شبه العسكرية وموظفي إنفاذ القانون إلى مدارس الشرطة الصينية للتدريب سنوياً في عام 2021.
4– مباشرة أنشطة إنفاذ القانون الصينية: تجري الصين عمليات إنفاذ القانون عبر وزارة الأمن العام الصينية (MPS) على الصعيد الدولي – بما فيها القارة الأفريقية – بوتيرة أكبر من تلك التي يقوم بها جيش التحرير الشعبي الصيني (PLA)؛ حيث يوجد نحو (40) دولة أفريقية لديها اتفاقات مع هذه الوزارة في هذا الشأن. وتمتلك الصين اتفاقيات استراتيجية عسكرية مع دول منتمية إلى مختلف الأقاليم الأفريقية الفرعية، ومنها (المغرب، والسودان، ونيجيريا، وغانا، وليبيريا، وسيراليون، وغينيا، وأوغندا، والكونغو الديمقراطية، وتنزانيا، وزامبيا، ومدغشقر، وموزمبيق)، كما تفاوضت على معاهدات تسليم المجرمين مع (13) دولة أفريقية، علماً بأنه لم يكن لدى الصين أي اتفاقية قائمة في هذا الشأن قبل عام 2018.
وتشكل مثل هذه الاتفاقيات الأساس الحاكم لـلحزب الشيوعي الصيني لبناء الدعم بشأن الأهداف الرئيسية لوزارة الأمن العام الصينية، وعلى رأسها إعادة المواطنين الصينيين المستهدفين إلى أوطانهم، وحماية الصينيين المغتربين. ومن نماذج هذه الأنشطة التدريبية، تنفيذ عملية مشتركة بين القوات الخاصة الأوغندية وأكثر من (30) شخصاً من عناصر “الكوماندوز” التابعين للصين في يناير 2022، وهي العملية التي أدت إلى اعتقال وترحيل أربعة مواطنين صينيين يُزعم أنهم جزء من عصابة إجرامية، وكذلك التعاون الوثيق بين قوات الأمن الكينية والشرطة المسلحة الشعبية الصينية (PAP)، الذي أدى إلى ترحيل نحو (44) مواطناً من تايوان تلقوا أحكاماً صارمة بالسجن وصلت إلى (15) عاماً بتهم تتعلق بالاحتيال؛ وذلك في أبريل 2016.
وتعد هذه الأخيرة قضية شديدة الحساسية من الناحية السياسية للعديد من البلدان الأفريقية؛ لأنها تستلزم قيام الجهات الأمنية الأفريقية بإعطاء الأولوية لحماية المواطنين الصينيين؛ ما قد يخلق تصوراً بأن سلامتهم وأمنهم أكثر أهميةً من المواطنين الأفارقة. وقد أصبحت هذه الممارسة مؤسسية بشكل متزايد في إطار الاتفاقيات الأمنية الثنائية الصينية وكافة خطط عمل “منتدى التعاون الصيني – الأفريقي” (FOCAC) المعتمدة منذ عام 2012، كما تنخرط الحكومات الأفريقية في تدريبات الأمن العام وإنفاذ القانون من خلال برنامج التدريب الدولي لإنفاذ القانون التابع لـوزارة الأمن العام الصينية، الذي يشمل نحو (21) أكاديمية للشرطة.
5–تقديم الدعم الأمني المتعدد: تعد الصين ثاني أكبر دولة مقدمة للأسلحة إلى أفريقيا، ولا سيما الأسلحة الصغيرة والمتوسطة (SALW)؛ حيث إن نحو ثلثي الجيوش الأفريقية تعتمد على استخدام الأسلحة الصينية، كما أنشأت “بكين” العديد من المدارس الفنية لتدريب كوادر أجهزة الشرطة في مناطق كثيرة من أفريقيا، كما أقامت مراكز للشرطة وقدمت معدات وأدوات وتجهيزات لدعم أجهزة شرطة. وقد حصلت البلدان الأفريقية على نحو (3.56) مليار دولار من القروض الصينية لدعم الأمن العام خلال الفترة (2003–2017)، وقد تضمن ذلك توفير أنظمة مراقبة وشبكات للأمن القومي، وغيرهما من الأدوات الأمنية، مثل أدوات ومعدات مكافحة الشغب. وتتبع الصين سياسة مرنة في هذا الشأن؛ حيث تسمح للدول الأفريقية وغيرها بشراء المعدات الأمنية دون قلق بشأن ضوابط التصدير المتعلقة بحقوق الإنسان ومراقبة الدول المستفيدة.
6– توظيف شركات الأمن الخاصة لحماية المصالح: تستخدم الصين نهجاً صارماً بشأن توظيف شركات الأمن الخاصة (PSCs) للتخفيف والحد من المخاطر الأمنية المواجهة لرعاياها ومصالحها في أفريقيا. وتُعَد هذه الشركات مزودة بأسلحة وأنظمة مراقبة متطورة، وتسعى إلى إقامة شبكة من العلاقات والتفاعلات الوثيقة مع الأطراف المحلية في الدولة المضيفة لأنشطتها، سواء النخب الحاكمة أو الجماعات المؤثرة أو الأفراد ذوو النفود والتأثير، وهو ما يُمكن الصين من مجابهة المخاطر المختلفة المرتبطة بالبيئات الأفريقية من قبيل انتشار التطرف والإرهاب والصراعات العرقية والحركات الانفصالية وغيرها. وتتعزز أهمية هذه الشركات في ضوء “مبادرة الحزام والطريق” التي يتم الترويج لها على أنها بمنزلة خطة “مارشال” بخصائص الصينية من أجل إنشاء نظام عالمي جديد تكون الصين في مركزه.
7– تعزيز الشراكات الأمنية مع الاتحاد الأفريقي: تبلور ذلك من خلال التحرك نحو تفعيل “مبادرة الأمن والسلام والأمن بين الصين وأفريقيا” و”صندوق الأمن والسلام الصيني–الأفريقي” في عام 2018، وكلاهما يتيح للصين تقديم الدعم لمختلف مكونات “هيكل السلم والأمن الأفريقي” (APSA) الذي حدده البروتوكول المنشئ لمجلس السلم والأمن الأفريقي الصادر في عام 2002، كما سعت الصين في هذا الإطار إلى تقديم الدعم إلى التجمعات الاقتصادية الإقليمية الثمانية التي يعترف بها الاتحاد الأفريقي، ومنها تجمع “إيكواس”، وبعض التجمعات الأفريقية الأخرى، وعلى رأسها تجمع “دول الساحل الخمس”.
عوامل محفزة
ثمة العديد من العوامل المحفزة لتنامي الدور الأمني للصين في القارة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، وهي العوامل المتمثلة فيما يلي:
1– حماية الرعايا والمصالح الاقتصادية: وهو العامل الذي يأتي على رأس العوامل المحفزة للحضور الأمني للصين في أفريقيا، ولا سيما في ضوء اعتمادها على المكون الاقتصادي بالأساس في استراتيجيتها تجاه القارة؛ حيث تعد بمنزلة الشريك التجاري الأول لأفريقيا على مستوى الدول؛ إذ بلغ حجم تجارتها مع أفريقيا نحو (281.7) مليار دولار في عام 2022، كما تعتبر أفريقيا ثالث أكبر وجهة للاستثمارات الصينية بعد كل من أسيا وأوروبا؛ حيث إن لديها تدفقات استثمارية مباشرة إلى أفريقيا بلغت نحو (4.2) مليار دولار في عام 2020.
وكذلك بلغ مخزون الاستثمارات الأجنبية المباشرة للصين في أفريقيا نحو (43.4) مليار دولار خلال العام ذاته، وهو ما يشكل ارتفاعاً بالمقارنة بعام 2003 الذي بلغت خلاله نحو (490) مليون دولار، كما تعمل الصين على تعزيز وجود الشركات التابعة لها في العديد من قطاعات الاقتصاد الأفريقي؛ حيث يوجد ما لا يقل عن نحو (10) آلاف شركة صينية عاملة في القارة، ويعمل ما يقرب من ثُلث هذه الشركات في قطاع التصنيع وربع عددها في الخدمات وخمس عددها في قطاع البناء والعقارات، كما أنشأت الصين (25) منطقة تعاون اقتصادية في (16) دولة أفريقية.
2– تأمين الحصول على الموارد الطبيعية: وهو أحد محفزات التحركات الأمنية للصين في أفريقيا؛ حيث تذخر القارة بالعديد من الثروات والموارد الطبيعية اللازمة للأنشطة الاقتصادية الصينية؛ فعلى سبيل المثال، تعد أفريقيا ثالث أكبر منتج للذهب على مستوى العالم، وهو ما يمكن أن تستفيد منه الصين التي أصبحت عملية استخراج الذهب وتخزينه بالنسبة إليها أولوية وطنية استراتيجية، ولا سيما في ضوء استمرار اتجاهات التضخم وتراجع الدولار على مستوى العالم منذ بدء الحرب الروسية–الأوكرانية في فبراير 2022؛ حيث ارتفع سعر الذهب ليتخطى (2000) دولار للأونصة هذا العام، وحقق أعلى مستوى له على الإطلاق؛ إذ تجاوز أعلى مستوى سابق له في أوائل عام 2010. ولعل هذا ما يفسر استئناف الصين أعمال التنقيب عن مناجم الذهب في جمهورية أفريقيا الوسطى رغم تنامي المخاطر المواجهة لموظفي التعدين الصينيين خلال الآونة الأخيرة؛ حيث قُتِل (9) موظفين في منجم ذهب افتتح حديثاً في شمال شرق الدولة في مارس 2023.
كما تشكل موارد الطاقة أحد أهم مرتكزات الأمن القومي الصيني، وهو ما جعل الصين تركز على تأمين تدفق مصادر الطاقة الأفريقية لدفع عجلة النمو والتنمية الاقتصادية لها؛ حيث تمتلك أفريقيا نحو (12%) من احتياطيات النفط على المستوى العالمي، كما تستحوذ على نحو (8%) من احتياطيات الغاز الطبيعي على المستوى العالمي، ولعل هذا ما يجعل الصين تركز على تعزيز استثماراتها في مجال التنقيب والإنتاج لكل من النفط والغاز الطبيعي في أفريقيا؛ حيث إن أكثر من نحو (25%) من واردات الصين من كلا الموردين الاقتصاديين تأتي من القارة، وهو ما يجعل أفريقيا ثاني أكبر مصدر إقليمي للصين بعد منطقة الشرق الأوسط في هذا الشأن.
3– الترويج للنموذج “الأمني” الصيني في الواقع الأفريقي: تسعى الصين إلى تعزيز قاعدة انتشار النموذج الأمني لها في أفريقيا؛ حيث تستهدف أنشطة إنفاذ القانون الموسعة التي تضطلع بها وزارة الأمن العام الصينية في أفريقيا، الترويج الموسع لأعراف الشرطة الصينية داخل قوات الشرطة الأفريقية، وهو ما ينطوي بالضرورة على التعرف على المبادئ السياسية والأيديولوجية القائم عليها نموذج الحزب الشيوعي الصيني المتمثلة بالأساس في السيطرة الحزبية المطلقة على قوات الأمن والدولة. وفي هذا السياق تلقى ما يزيد عن (2000) فرد من أفراد الشرطة وموظفي إنفاذ القانون الأفارقة تدريبات في الصين خلال الفترة (2018–2021).
ويمثل المشاركون الأفارقة نحو (35%) من إجمالي العناصر الأجنبية التي تلقت التدريبات في هذا الشأن، وهو ما يضع أفريقيا في المرتبة الثانية بعد آسيا، كما يشتمل نشر المعايير الصينية في مجال إنفاذ القانون على تدريب الآلاف من القضاة والمحامين الأفارقة من خلال مركز القانون والمجتمع الأفريقي في جامعة “شيانجتان” والمنظمة الاستشارية القانونية الآسيوية–الأفريقية ومنتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC)، الذي يركز بالأساس – من بين أمور أخرى – على تحقيق المواءمة بين القوانين الصينية والأفريقية، وقد تلقى ما لا يقل عن نحو (40) ألف محامٍ أفريقي هذا التدريب منذ عام 2000.
تحديات ملحة
يمكن القول بوجود جملة من التحديات الملحة المترتبة على تصاعد الدور الأمني الصيني في أفريقيا، وهي التحديات المتمثلة فيما يلي:
1– تعزيز التنافس الأمني للقوى الدولية على أفريقيا: يستدل على ذلك من خلال تنامي التنافس الدولي على أفريقيا خلال السنوات الماضية، ولا سيما عبر الأدوات الأمنية والعسكرية؛ حيث تسعى القوى الدولية على نحو حثيث إلى ذلك من أجل تأمين الأهداف الوطنية لها من جانب، ومناوأة نفوذ القوى الأخرى المنافسة لها في القارة الأفريقية من جانب آخر، وهو الوضع الذي قد يؤدي في الأخير إلى تنامي ظاهرة “العسكرة” بتداعياتها المختلفة؛ وذلك على نحو مؤثر على واقع السيادة الوطنية والاستقلال للدول الأفريقية؛ فعلى سبيل المثال تستضيف جيبوتي ست قواعد عسكرية لدول (الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، والصين، واليابان، وإيطاليا، وإسبانيا)، مع وجود احتمالية لاستضافة قواعد عسكرية أخرى خلال الفترة المقبلة، وهو ما من شأنه أن يعزز من أنماط التفاعلات الصراعية في منطقة القرن الأفريقي؛ وذلك نتيجة لتباين منظومات الأهداف والمصالح الوطنية المرتبطة بكل منها.
2– تهديد تطوير النموذج الأمني الأفريقي “الوطني”: يتبلور ذلك من خلال التطبيق غير الناقد للنموذج الصيني “الأمني” المرتبط بنظام الحزب الواحد “الحزب الشيوعي الصيني” القائم على أن أمن النظام القوي هو أساس الأمن الوطني والبقاء للدول، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى خلق إشكاليات بشأن المنظومات الأمنية في أفريقيا، التي تتمركز في الأساس حول تقويض مبدأ المهنية والاحترافية للجيش والشرطة وفكرة الأمن لجميع المواطنين؛ حيث إن هذا النموذج سيدفع الدول الأفريقية باتجاه تبنِّي نظام الحزب الواحد المُهيمِن، ومن ثم فإن هذا النموذج الصيني قد ينحرف بعيداً عن تطلعات المواطنين الأفارقة بشأن تطوير خدمات أمنية احترافية وخاضعة للمساءلة، ولا سيما في ضوء التكتيكات الموسعة لوكالات الأمن الصينية لصياغة مزيج متزايد من الآليات الأمنية داخل البلدان الأفريقية.
3– التأثير على صياغة السياسات المحلية في البلدان الأفريقية: تلعب شركات الأمن الخاصة الصينية دوراً متنامياً في المساس باستقلالية عملية صياغة السياسات المحلية في الدول الأفريقية؛ حيث تتبنى فكر وسياسات “الحزب الشيوعي الصيني” على الصعيد الأمني، التي تقوم على ممارسة السيطرة والهيمنة على مختلف الكيانات المؤسسية، سواء المحلية أو الخارجية، وهو ما قد يجعل الصين تستخدم هذه الشركات من أجل ممارسة الضغوط على الدول في أفريقيا، ولا سيما تلك التي وقعت في فخ الديون الصينية، والتأثير على تحولات السياسة الداخلية في البلدان الأكثر فائدةً للصين، وهو ما يجعل هذه الشركات بمنزلة أداة لفرض وإرساء سيادة قيم ومعايير “الحزب الشيوعي الصيني” عالمياً على الصعيد الأمني في نهاية المطاف.
وختاماً، يمكن القول إن الصين تستخدم الآليات الأمنية المختلفة في أفريقيا وسيلةً لتحقيق جملة من الغايات الرئيسية المتمثلة في تأمين مصالحها الاقتصادية الحيوية، سواء التجارة أو الاستثمارات أو الموارد الطبيعية اللازمة لدعم عجلة نشاطها الاقتصادي من جانب، وتأمين الرعايا الصينيين والمصالح الخاصة بهم وحماية الأصول الخارجية ودعم جهود الدبلوماسية الصينية في أفريقيا من جانب آخر، وكذلك تحقيق توازن القوة مع القوى الدولية المنافِسة والمناوِئة لها في أفريقيا، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية من جانب ثالث. وتطرح الرؤية المستقبلية تنامي الدور الأمني للصين في القارة الأفريقية، ولا سيما في ضوء تنامي تأثيره على حماية المصالح الاقتصادية التي تشكل الأولوية القصوى لاستراتيجيتها في القارة.