- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
فؤاد راشد : عشم في الكوميديا السوداء
فؤاد راشد : عشم في الكوميديا السوداء
- 5 مايو 2021, 2:00:42 م
- 866
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عشم من نوع الكوميديا السوداء !
كانت أقسي سنوات عمري الدراسية علي الاطلاق , احدي سنواتي الدراسية بكلية الحقوق .
لو عمرت الف عام لا أنسي ذلك العام الدراسي المخيف .
لم يكن الهم هم الدراسة , بل هم كثرة الضيوف من الأهل مع هم
انقطاع المياه في الطابق السابع الذي نقيم به في عمارة قرب ميدان السيدة زينب.
الشقة أربع حجرات وصالة كبيرة وشرفات منها واحدة كبيرة .
نقيم أربعة في الشقة , كل في حجرة ، جاءت قرعتي – بالاكراه – في حجرة ذات بابين أحدهما داخلي وألاخر علي سلم العمارة ,
فمن يطرق فأمامه بابان يطرقهما معا كلما كان متعجلا, وكل الناس متعجلون ,كنت في مارستان حقيقي ..
كان ضيوفنا الأكارم نوعين , نوع مقيم اقامة كاملة في ضيافتنا ونوع عابر سبيل ، يبقي يومين أو ثلاثة ثم يرحل.
المقيمون – بالاكراه – ثمانية من أهل القرية , كلهم مجندون في الجيش , وكلهم له تصريح يومي بالمبيت ..
كانوا طيبين مرحين يتمتعون بروح جميلة , لولا أننا نحن الأربعة المنكوبين بضيافتهم طلبة ومطلوب منا مذاكرة لا سمرا ومرحا .
في البداية كانوا يتصرفون بخجل , لكنهم تمددوا وصار البيت بيتهم, فأنت تدخل حجرتك لتجد اثنين نائمين علي سريرك متجاورين ,
وكلاههما في سابع نومة , يصدر أصواتا تزعج المارة في الشارع, مزيكة حسب الله شغالة ..
عليك – حرجا – أن تنام علي الأرض , تفرش ما تيسر وتنام ترتجف من البرد في فصل الشتاء.
دعك من مئونة الضيافة , فهم جميعا أقارب زملاء المسكن ولهم من العشم - الاجباري - مايعفيهم من دفع نفقات ولا مليم ..
أحاول النوم عصرا قبل تشريفهم , فيتطوع أي قادم للطرق علي باب الحجرة , فأصحو مضطربا معتل المزاج !
أما العابرون فكانت بداية ( الايراد ) عادة يوم الجمعة , تأتي سيارة أرسلها أهلنا محملة بالطعام , ولا تخلو مرة من ضيف أو ضيفين ,
أما في مولد السيدة والحسين , فقد كانت الشقة جزءا من المولد ! قل ما تحب , عشرة , عشرون , ثلاثون . وعلي أحدنا أن يتطوع معهم بدور المرشد السياحي !!
البعض ينام علي الأسرة , حسب صاحب النصيب ومن سبق الي السرير نعم بنوم في فراش وثير , وأما الباقون فهم وما يشاؤون ..
كان ضمن المقيمين شاب من السويس أصلا ولكنه صار من أهل القرية وله من العشم ما للجميع الا قليلا ,
الحقيقة أنه الوحيد الذي استطعت أن أحسن التعامل معه , كان دائما معجبا بالنوم علي سريري , وسرعان ما يذهب في نوم عميق ,
وما أن يحل وقت نومي حتي أحمله ( وكان ضئيل الجسد ) كما أحمل طفلا ,
لكني لا أهدهده بل القي به الي أرض الصالة وهو غارق في النوم ثم يقوم في الصباح ان لحقت به ليعطيني درسا في حق الضيوف .. ماعلينا .. علي رأي عادل امام .. العالم هتقطع بعض ياجدع ..
أما الباقون فكان لهم من ( العشم ) ما يعطيهم الحق في تكسير السرير ان شاؤوا فيما لو تجرأت علي شيء من ذلك ..
كانت المياه تنقطع طوال اليوم , ولم تكن المياه المعدنية ظهرت , فكنت أتناول افطاري ومعي زجاجتان من المياه الغازية للشرب لانعدام وجود مياه الشرب ..
أنت تصحو متي ؟ مبكرا مثلا في السابعه , لا جديد , لقد سبق أخوتك الانكشارية الذي يستيقظون مع الفجر وانقضوا باسراف لاتحتمله الأمور وأجهزوا علي مياه الشرب المخزونة كلها وانصرفوا ...
كنت أسمع جملة غريبة تضحكني , كل جار يقف قرب المنوروينادي الجيران ويقول بجدية ( ميه شوية يا جبانات ) !!!!!!
هي كلمة جبان لها هنا مدلول تاني غير اللي في بلدنا ؟ لا أحد ينادي الاخرين بغلق صنابير مياههم لتصعد اليه المياه الا وهو يضرب كفا بكف قرب المنور ويقول بهدوء رزين ( مياه شويه يا جبانات ) وقد يكون مهذبا جدا فيقول ( ميه شويه يا جبابات لو سمحتم ) ...
لم تخل الأمور من نوع لذيذ من حرق الدم .. تخيل ؟ حرق دم كوميدي. مثلا , خرج أحد أهلنا بملابسه الداخلية ونام في الشرفة , يلبس سروالا تتدلي منه شرائط تكة قطنية طويلة من الناحيتين ,وتهتز أمامه وهو يمشي , نام ثم صحي وحلا له النسيم في الشرفة فوقف يستمتع بمشاهدة المارة , وما أن وقعت عليه عيون الجارات حتي توالي الصراخ علينا من كل جهة , وخرجنا نهدي الثاثرات فسمعنا في أنفسنا أوصافا لا تسر عدوا ولا حبيبا , كلها تدور حول همجيتنا وبربريتنا وأننا محسوبون من صنف البشر ظلما وعدوانا ..
من نكد الدهر علينا , أن الحسنة الوحيدة التي صحبتنا ملت العيشة واللي عايشينها وحرمنا منها ..
كان معنا طباخ ماهر مدرب , يتولي يوميا اعداد الطعام ل ( الجرمأ ) كما كان يقول غاضبا وهو يصف العشرات الذين عليه اطعامهم .
فر ..
فر من وجوه الضيوف الانكشارية ومن وجوهنا ..
صحونا ذات يوم فوجدنا حمل كل الأرز والخضروات المعدة للطعام وسجادة قديمة وطار الي حيث لا ندري ..
نمي الي علمنا أنه وقع في حب زوجة بواب وهي التي أغرته بالهرب من وجوهنا , وعلي سبيل الانتقام من عشرتنا السودا ومعنا أهل بلدنا سرق ما أمكن له سرقته ..
كان علينا أن ندبر طعامنا ودخلنا في حالة يرثي لها ..
استنجدنا بالأهل , فأرسلوا لنا فتي في عمر لايتجاوز أربعة عشر عاما من عزبة نائية عن العمران , كان فتي لطيفا برئيا , سألني أنت هتبقي ايه . شرحت له .. قال يعني بعدها بكام سنة تدي حقن؟
لم يعرف من المتعلمين الا الطبيب أو التومرجي ..
ذات يوم أنقذت المارة من كارثة لقلة درايته ..
وضع قدرا كبيرا فيه بطاطس وماءعلي النار يغلي .
ثم أفرغ القدر من البطاطس وأمسك به وراح يصب الماء المغلي في الشارع علي رؤوس المارة ..
فتي بريء طيب ساقته أقداره الي العناء بدلا من حظه الطبيعي في اللهو في هذه السن الباكرة ..
علمناه أمورا تلائم حياة المدن , لكن أمرا وحيدا لم يتجاوب فيه أبدا , كلما خطر له أن يبصق خرج الي الشارع وفعل مابدا له علي أدمغة المارة ..
اقتربت الامتحانات والحال هو الحال ..
أقدمت علي خطوة وصفت وقتها- باجماع الآراء- بالندالة , وضعت قفلا علي باب حجرتي ..
وراح كل من يراه يلقي في شخصي قصيدة هجاء تدور كلها حول هذا التصرف المغرق في الندالة !! ماشي ماااااااشي
الحمد لله , بعد ثلاثة أيام وضع الثلاثة الباقون من السكان الأصليين أقفالا علي حجراتهم , بعد أن كانوا أوسعوني هجاء ..
قلنا للضيوف , طعامكم واجب علينا , لكننا نطعمكم لوجه الله دون جزاء ولا شكور , فاتركوا لنا الأسرة فنحن طلبة نحتاج أكثر منكم للراحة ..
ولم يقتنع أحد من الانشكارية بهذا المنطق , وواصلوا الهجوم علي أي حجرة تفتح ..
مضي العام ..
وتعلمت الدرس ..
في أخر سنة دراسية , وكان المجموع يحسب علي أساسها , أقمت قرب ميدان الجيزة في حجرة بديعة ضمن شقة مفروشة ..
أجتهدت في اخفاء أين أقيم علي كل من استطعت ..
ثم ثمممممممممممممممممممممممممممم
ذهبت الي بائع الصحف وطلبته منه كومة من الصحف القديمة .
وجئت بدبابيس كثيرة جدا ورحت أضع الورق علي الباب من الداخل حتي وصلت الي استحالة أن يعرف أحد هل الحجرة مضاءة أم لا ..
واللي عاوز ييجي يخبط يشرف .. محدش جوه ..