- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
لطفي العبيدي يكتب: عندما يسير العالم على غير منهج
لطفي العبيدي يكتب: عندما يسير العالم على غير منهج
- 7 أبريل 2023, 11:43:49 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
العالم بحاجة إلى أسس استراتيجية تنموية هدفها تأسيس قاعدة للتواصل والتعاون الدولي، وشبكة أكثر قوة من الشراكات مع الدول المختلفة، والدفع باتّجاه إنشاء نظام دوليّ أكثر عدلا وعقلانية واتزانا. مع الأسف، لا وجود لبوادر إصلاح الاقتصاد العالمي، أو مقاربات للتفكير في إحلال توازن اجتماعي يخدم الشعوب التي تراهن على السلام بديلا للحرب وعنف الغاب الذي يكرسونه.
منذ تسعينيات القرن الماضي، وجدت المنظمة التكنوقراطية الدولية الفضاء مفتوحا لتفعل ما تريد على نحو سلبي، خيّب آمال الشعوب وتطلعاتها. وهي فترة أضعفت نظرية الأمن الشامل التي من المفترض أن توفرها المنظمة الأممية. تمّ إضعاف السلطة الاقتصادية للدولة القُطرية، والبنى القائمة على العنف والهيمنة باسم النيوليبرالية، أجهضت قيم الحرية والعدل والديمقراطية، وكرّست صورة نمطية تدّعي الحقيقة ولا تقبل النقد. وأصبح العالم على شاكلة جزر من الأثرياء يحيطها بحر شاسع من البؤساء. عولمة اقتصادية تسير بعنوان سطوة المصالح، وتترك آثارها السياسية والاجتماعية والثقافية بشكل مطّرد.
منطقة اليورو تعاني أزمات التضخم والطاقة، جراء انغماسها في مغامرة تسليح أوكرانيا، والانجرار وراء واشنطن التي ترغب في استنزاف روسيا على حساب أمن أوروبا واقتصادها
وعلى امتداد هذه الفترة كانت السياسة المتبعة في مجال حقوق الإنسان انتقائية، وما زالت تعمل كدرع لعمومية كاذبة، لبشرية وهميّة، يدعون البحث عن مصالحها، وهم يدمّرون إنسانيتها المشتركة بفعل ذاتية الغرب الإمبريالي المفرطة، والتمركز حول مصلحته الخاصّة، وإلى الآن ترفض الولايات المتحدة التي تتخبّط في مجدها الذاتي المتداعي، إبقاء العلاقات الأممية منصفة، على نحو رفع الفيتو، خاصة ضد بند الشرق الأوسط في مجلس الأمن وغيره من الهياكل الأممية. والنتيجة الطبيعية لكل ذلك، هي غياب قاعدة تشاركية لحفظ السلم والأمن الدوليين، وإنصاف الشعوب المضطهدة. هناك استعمال وقح لحقوق الإنسان من أجل حجب عالمي لمصالح معلومة. ويكفي ما تفوّهوا به من مقارنات بين لاجئي العراق، الدولة التي دمروها وشرّدوا شعبها عام 2003، واللاجئين الأوكرانيين في بداية الحرب مع روسيا، كذلك الشأن مع فلسطين وضحايا الاحتلال الإسرائيلي، ومع الأسرى في السجون. لا يرف جفن لدعاة حقوق الإنسان بشأنهم، في حين يُصدّعون رؤوسنا حول ما يدعون أنّه تزايد لانتهاكات حقوق الإنسان في دول الخليج مثلا، أو في إيران أو غيرها، لا شأن لهم بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان، جميعها يافطات كاذبة يشتغلون بها لمآرب سياسية، وأجندات مصالح ونفوذ وليّ الأذرع. ونلاحظ بوضوح كيف يستشعرون الخطر في كل مرة عندما يرون أن المنطقة العربية تتحرّك صوب استقلالية لها معنى، أو أن تعبّر السياسات عن الرأي العام وتطلّعات الشعوب العربية. ومخطئ من يصدق تفاعلهم «الإيجابي» مع التقارب الإيراني السعودي، أو مع رغبة بعض الدول العربية في استعادة دمشق، وإرجاعها إلى الحضن العربي. وتخليصها من مخالب قوى إقليمية التجأت إليها سوريا عندما لفظها الجميع، واستبعدوها بدفع أمريكي وأوروبي معلوم. وغير خفي أنّهم يشترطون تقديم المساعدات بالتموقع وراء أجندات التقسيم وشق الصف العربي وسياسة المحاور، وهو مسار يمنع تناغم المجتمع والدولة، ويعطّل الاستقرار والانسجام، ويؤجل الحديث عن دولة تستند في وجودها إلى إرادة مواطنيها، ومشاركتهم الفعلية التي تكفل لمنظومة الحكم التمتع بالشرعية القانونية والسياسية. ومن المفارقات أنّهم يدركون أن تراكم المشاكل الاقتصادية والمالية وانعكاساتها الاجتماعية، هي التهديد الحقيقي لاستمرار نجاح المسار الديمقراطي في أي دولة، ومع ذلك لا وجود لدعم فاعل إقليمي أو دولي لدول عربية تعاني أزمات خانقة. فقط ربما يأتي بعض الدعم عندما يستشعرون بأنّ تلك الدولة قد تتوجه نحو المعسكر الشرقي، الذي يعتبرونه منافسا استراتيجيا للغرب. وهنا نتحدث تحديدا عن روسيا والصين. هذا جزء من خيبات العالم الديمقراطي ونفاقه المزمن، وعطب الخطاب السياسي الغربي المعاصر الذي يدّعي مناهضة الطغيان والديكتاتورية، ويدعو للحل الديمقراطي والعدالة والتكفل بحقوق الإنسان. بالمحصلة، هم لا يرغبون في أن تتخلّص الدول من كونها أسيرة السياسة الدولية التي تبحث من خلالها القوى الكبرى عن تكريس قيادتها للنظام العالمي الذي وضعت قواعده على مقاس المنتصرين منذ الحرب الكونية الثانية، وإثر سقوط المعسكر الاشتراكي. هل يمكن للقوى الكبرى أن تستمرّ في السعي لبناء استراتيجيات تعاون، رغم وجود صراع حول فكرة الريادة وواقعية المواجهة الجيوسياسية؟ الواقع قاتم، ولا يمكن استبطان إجابة موحية بالإيجاب على المدى المنظور على الأقلّ، رغم أنّ الرهان الملح اليوم، هو في كيفية إعادة النظر بفكرة التعاون الدولي على الصعيد التطبيقي ضمن مصير الأمن الجماعي، وحتى أمن الداخل ضمن أطر قُطرية لكل دولة. فظاهرة تفكك الدولة وانقساماتها الداخلية وصراعاتها الاجتماعية وانكشاف مشاكلها البنيوية، ليست مختصرة على العالم الثالث كما يدعون، فحتى ما تسمى دول العالم الحر، التي تلتزم أيديولوجية الديمقراطية الليبرالية تعاني مشاكل اجتماعية وسياسية كبرى. والمسألة لم تقف عند غزوة الكابيتول، أو ما يحدث في الداخل الأوروبي من احتقان شعبي، وصدام مع أجهزة الدولة الأمنية في فرنسا وغيرها. ومن المؤكّد أنّ الصّدع الذي حدث بين دول الاتّحاد الأوروبي، وصدمة القرارات وانقسام المواقف، سواء أثناء أزمة الجائحة العالمية، أو في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، سيؤثّر في مستقبل هذا التّحالف الذي اكتشف أعضاؤه مؤشّرات سلبية للتّضامن الأوروبي.
منطقة اليورو تعاني أزمات التضخم والطاقة، جراء انغماسها في مغامرة تسليح أوكرانيا، والانجرار وراء واشنطن التي ترغب في استنزاف روسيا على حساب أمن أوروبا واقتصادها. وهي تحلم بمشروع مارشال جديد، الذي صرح المستشار الألماني أولاف شولتس في أكثر من مناسبة، بأن الغرب يسعى إلى مساعدة أوكرانيا «بخطة مارشال للقرن الحادي والعشرين». متناسيا أنّ السياسة ترتبط بالاقتصاد بخط مستقيم، وأنّ خطة مارشال كانت وقتها الأداة الاقتصادية التي أطلقت العنان للحرب الباردة. ومعظم عائداتها كان مرجعها إلى أمريكا، ما وفّر قوة دفع قوية لتنمية الاقتصاد الأمريكي لعقود متواصلة. في الأثناء، يبدو من المستبعد في المدى القريب، أن يتقلّص مؤشر الصدام بين روسيا والأطلسي، أو تتراجع حدّة التنافس بين واشنطن وبكين، والتوتّر القائم بين نموذجين اقتصاديين يتصارعان على الهيمنة الاقتصادية، من المرجّح أن يتفاقم على نحو يجعل شبكة العلاقات الدولية أكثر تعقيدا. مع قابلية نكوص وتأزّم مضاعف لاقتصاديات معظم دول العالم، رغم أنّ التجارة والدّيْن يعطيان دوافع اقتصادية كبيرة من أجل تجنّب الصراع الذي قد يدفع الجميع ثمنه غاليا. والأخطر من ذلك كلّه إمكانية المواجهة العسكرية، في حال تفاقم الوضع في جزيرة تايوان، التي تربطها علاقات وثيقة مع واشنطن، خاصة على المستوى الاقتصادي وتبادل الرقائق الإلكترونية وغيرها. سياسة تجارية بلا اتجاه، وحرب عسكرية واقتصادية لن يكون فيها منتصر. والأفضل بالنسبة للقوى العظمى المتنافسة عدم عسكرة السياسة الخارجية، وتجنب سوء التقدير بشأن النوايا الاستراتيجية لخدمة أهداف سياسية على حساب المجتمع الدولي، خاصة أنّ العالم يشهد تغيرات معقدة، وأزمات لا مثيل لها، تتطلب معالجة العديد من المشكلات العالمية، مثل تغير المناخ والأوبئة ومشاكل الهجرة واللاجئين، والأقليات وتنامي الفاشية والعنصرية، وبالأخص أزمات الغذاء والاقتصاد والطاقة، تكثيف جهود الحل هو المطلوب، وليس مزيدا من تأزيم الأوضاع وتعميق مآسي الشعوب.
كاتب تونسي