- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
مالك التريكي يكتب: مفارقات الثقة السياسية في المجتمع
مالك التريكي يكتب: مفارقات الثقة السياسية في المجتمع
- 23 سبتمبر 2023, 12:42:05 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
أفضى بنا التطرق إلى أزمة اليسار الأسبوع الماضي إلى ذكر اسم المؤرخ جاك جوليار الذي رحل عن الدنيا أوائل هذا الشهر. وقد عرف الجمهور القارئ جاك جوليار منذ أواخر الستينيات كاتبا سياسيا لامعا، حيث كان هو والمؤسس جان دانيال ومديرة التحرير فرانسواز جيرو أشهر كتّاب أسبوعية «لونوفيل أوبسرفاتور» التي عرفت باستقطابها بعض أبرز المفكرين الفرنسيين مثل سارتر وفوكو وإدغار موران، واستكتابها أهم المثقفين اليساريين، واضطلاعها بدور نشيط في الحركة الفكرية والسياسية الفرنسية. وقد تسنى ذلك كله بفضل فرادة جان دانيال وتأليفه في شخصه بين المفكر ذي التكوين الفلسفي والكاتب ذي الميسم الأدبي والصحافي ذي النهم لكل طارِف وجديد، أي الصحافي الذي لا يطيق صبرا على حركة التاريخ. وهذا التعريف للصحافي باعتباره متلهفا على الأحداث راصدا للتاريخ، بل مترصدا له ومستعجلا، هو من العبارات المأثورة عن جان لاكوتير الصحافي المؤرخ، أستاذ فن كتابة التراجم والسِّيَر (مونتسكيو، ديغول، منداس فرانس، ليون بلوم، هوشي منه، مورياك، مالرو، جمال عبد الناصر، الخ.). ومن اللافت أنه تعاون والصحافي اللبناني غسان تويني والمؤرخ جيرار خوري في تأليف كتاب حواري عن التاريخ العربي المعاصر، بعنوان «القرن الذي ذهب بدَدا: الشرق الأوسط العربي من الإمبراطورية العثمانية إلى الإمبراطورية الأمريكية» يتضمن أحد أوضح التحليلات وأدقها لأسباب عجز العرب عن تحقيق النهضة التي عملت لها الأجيال منذ منتصف القرن الـ19. قرن ذهب سدى لأننا لم نغتنم الفرصة التاريخية التي سنحت، في الخمسينيات، لتحرير أمتنا وتوحيد كلمتنا وتحقيق مصير قومي يضارع مصائر أمم شرقية أخرى ناهضة، مثل الصين والهند واليابان.
رغم أن اليسار تحرر من تراث النزعة المركزية، القائمة على الثقة في الدولة، واستبدل بها النزعة الليبرالية، القائمة على الثقة في المجتمع، فإنه لا يزال يراكم الهزائم الانتخابية: أي أن المجتمع لا يبادله ثقة بثقة
وقد أتت هذه العبارة، والمفهوم الذي تحيل عليه، جدلا لشتات مادة غزيرة في كتاب بعنوان «استعجاليّو التاريخ» جمع فيه لاكوتير سير أهم الصحافيين الفرنسيين على مدى أكثر من ثلاثة قرون. ومن صحافيي عصرنا الذين ترجم لهم في الكتاب: جان دانيال، زميله وخليله، والصحافي الثقافي التلفزيوني الشهير برنار بيفو صاحب برنامج «أبوستروف» الذي ذاع صيته لا في البلدان الفرنكوفونية فحسب، بل وحتى في أمريكا حيث كتب عنه الكثير باعتباره نموذجا استثنائيا لا يمكن أن يخطر بخيال شبكات التلفزيون الأمريكية الكبرى العاجزة تكوينيا (بسبب من ارتهانها الكلي لدكتاتورية الترفيه والدعاية والربح) عن تخصيص مجرد ساعة في الأسبوع لشؤون الفكر والثقافة. ولهذا اتخذه كثير من المثقفين الأمريكيين نموذجا مضادا يستدلون به على إمكان أن يكون التلفزيون كائنا تنويريا يخاطب الألباب بدل دغدغة الغرائز، أو اجترار الأخبار باعتبارها أقصى أفق المعرفة! وبما أن المحاكاة هي أبلغ المديح، فإن الناقد السينمائي الأمريكي الراحل جيمس ليبتون أطلق عام 1994 برنامجا تلفزيونيا مستلهما من برنامج بيفو الثاني «حساء ثقافي» ولو أنه كان مخصصا حصرا لاستضافة وجوه السينما والفنون الأدائية.
ويصعب جاك جوليار على التصنيف، فقد كان من كتاب «لونوفيل أوبسرفاتور» اليسارية لأكثر من أربعة عقود، ثم صار كاتب افتتاحيات في أسبوعية «ماريان» اليسارية بالتزامن مع الكتابة في يومية لوفيغارو اليمينية! وقد كان من أنصار مشروع «اليسار الثاني» (الملتف حول السياسي ميشال روكار، الذي تولى رئاسة الحكومة من 1988 إلى 1991). وهو يسار إصلاحي يناهض الشيوعية وينادي باللامركزية وباحتكام الأطراف الاجتماعية إلى مبدأ التعاقد بدل سلطة القانون، وباحتضان الشرائح الجديدة ذات الشهادات الجامعية. كما كان جوليار ينتمي إلى تيار نقابي ذي نزعة مسيحية مؤيد للحقوق الاجتماعية ومناهض للاستعمار.
أما أهم أعماله التاريخية فهو كتاب «اليسارات الفرنسية». لماذا اليسارات بالجمع؟ أولا، لأن لتاريخ اليمين في فرنسا مرجعا معتمدا شهيرا هو كتاب رني ريمون الذي صدر عام 1954 بعنوان «اليمين في فرنسا من 1815 حتى اليوم» ثم ظل يصدر في طبعات متتالية مزيدة ومنقحة بعنوان «اليمينات في فرنسا» (أي تيارات اليمين). السبب الثاني أن اليسار ينقسم في تصنيف جوليار إلى أربع عائلات: اليسار الليبرالي؛ واليعقوبي (المركزي)؛ والتعاضدي؛ والليبرتاري (التحرري أو الفوضوي). لا يقدم الكتاب حلا لأزمة اليسار، ولكنه يحسن تصوير المفارقة الصارخة: رغم أن اليسار تحرر من تراث النزعة المركزية، القائمة على الثقة في الدولة، واستبدل بها النزعة الليبرالية، القائمة على الثقة في المجتمع، فإنه لا يزال يراكم الهزائم الانتخابية: أي أن المجتمع لا يبادله ثقة بثقة!
كاتب تونسي