- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
محمد قدري حلاوة يكتب : تسول
محمد قدري حلاوة يكتب : تسول
- 6 أبريل 2021, 10:54:42 م
- 751
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
( تسول)
(١)
" مصرع متسول مسن بيد مجهول".. كاد فنجان القهوة أن يسقط من يدي.. أعرف هذا الوجه... بالتأكيد هو.. " عم هارون".. " عثرت قوات الشرطة بالأمس على جثة متسول عجوز مضرجا في دماءه إثر طعنه عدة طعنات في الصدر والظهر.. وبإنتقال النيابة للتحقيق.. تبين أنه عجوز في العقد الثامن من عمره يسمى" هارون. م. خ." يقطن في مسكن خشبي بمنطقة (............) تحت كوبري (...........) .. وبمناظرة الجثة وجد أنه مطعونا عشرون طعنة في أماكن متفرقة من جسده.. و بتفتيش المنزل عثر على مبلغ طائل من المال وبعض المشغولات الذهبية..وبضعة زجاجات فارغة من الخمر.. وأمرت النيابة بنقل الجثة للمشرحة.. هذا ويقوم رجال البحث الجنائي برفع آثار الجريمة للتحقيق.. وتشير الدلائل الأولية أن الحادث تم بدافع الإنتقام.. ووجهت النيابة بإستمرار التحقيق.. وتبذل قوات الشرطة مجهودات مضنية لسرعة ضبط الجناة "..
" عم هارون" أشهر متسول في المنطقة.. أربعون عاما يمارس تلك المهنة.. هذا قدر ما أعي.. ربما مارسها منذ عقود لا يعلم كنهها سوي قليلون.. كان يتمتع بملكات نادرة مكنته من النجاح والإستمرار في جني الأرباح.. دائم الأسباب والأعذار..متجدد الهيئة والحجة.. بدأ كشاب يريد العودة لبلده بالصعيد ولا يملك ثمن التذكرة.. بعد حين بدا كعاجز يبيع المناديل الورقية.. سنوات أخرى عجوزا منحنيا يلمع زجاج السيارات.. كيف نجح في خداع الناس كل تلك الفترة؟.. الناس تنسى ولا تهتم بتلك الوجوه المهمشة.. لم يلاحظ سوي قليلون أن قدمه المبتورة قد عادت للنمو مرة أخرى.. لم يهتم أحد كذلك أنه لم يعد لبلده المزعوم بالصعيد أبدا.. صار له أتباع وصبية ومنطقة نفوذ.. لغته ومفرداته ذكية لماحة.. " حاجة لله.. ربنا ما يقطع لك عادة".. نحن قوم طيبون نرتعد ونتشائم من إنقطاع العادات.. " ربنا يرزقك بإبن الحلال".. حلم كل فتاة الزوج والبيت والأسرة.. " ربنا ينجحك ويوفقك يارب".. أي طالب هذا الذي، لا يبغى النجاح والتفوق؟..لكل مقام مقال..
كان البيت المتهالك الكامن تحت أحد الكباري يشي ببؤس حال صاحبه.. بضعة قوائم وألواح خشبية وسقف من الصفيح و" الكرتون".. صار البيت مأوى للأطفال المشردين متسولي المستقبل.. بضعة فتيات صغار من تلاميذه.. تواترت الأقوال أن " الشيخ هارون" _ كما أطلق عليه أهل المنطقة _ يتحول إلى وحش ماجن في ساعات الليل... تهامس البعض أن الأطفال الصغار الذين تحملهن الفتيات على أيديهن لإستعطاف المارة هم أبناء " هارون".. كان يتسول لحظات من السعادة الهاربة مثل عمره السارب من عقود الزمن.. متعة رخيصة بلا ثمن أو عواقب. مجرد فتات من الطعام والشراب يجود بها على ضحاياه.. وحفنة شحيحة من المال.. من يهتم بالضحايا في مجتمع تسيل من بين شفتيه دلائل الشهوة ولذة الإفتراس؟.. صار" معلما" يخشى جانبه وبأسه.. "صبيانيه" يتحكمون في المداخل والمخارج.. لا يبادرون بالشر.. لكنهم لإتيانه قادرون.. أصبح مقعده على المقهى ومسكنه " المتداعي" محجا لآصحاب المشاكل والخلافات و " قعدات العرب" يرتضونه حكما وفصلا بينهم... مرشحي الدائرة يرجون وده ويحمونه وهو لا يقصر في خدمتهم.. يقول البعض أن ثلة حاولت إقناعه بترشيح نفسه.. رفض رفضا قاطعا.. هو ملك غير متوج.. مالذي يجعله يخوض بحار السياسة المتلاطمة؟.. " عم هارون" كان أكثر حكمة مما يتصور الكثيرون.. هو رابح في جميع الأحوال.. بغير مجهود يذكر.. هل يخاطر بهذا الربح من أجل الخطو حافيا في حقل الأشواك؟ ..
(٢)
يمكنك يا صديقي أن تزدري وتحتقر مهنة التسول.. تغلق زجاج سيارتك الغامق بزر في وجوه المتسولين.. تنهر طفلا صغيرا يمسح سيارتك بقطعة قماش بالية.. يمكنك أن تفعل كل ذلك وتلعن التسول والتوسل وتغمض عينيك وتوصد مشاعرك أمام مشهد رجل يشير بيده نحو فمه حلما بالطعام.. تستطيع أن ترى فيها مهنة مزرية ومهينة.. ولكن ما التسول؟.. التسول أن يصبح حقك منحة.. أن ترحو غدا أقل وطأة من الأمس.. تخشي المستقبل متسولا ذكريات الأمس.. التوسل؟.. من منا لا يتوسل سبل النجاة والسلامة وسط مجتمع يفقد إنسانيته يوما بعد يوم.. تتوسل " واسطة".. منفذا وأمانا ولو من سم إبرة خانق... وماهية الإهانة؟.. ألا تشعر بالإهانة والإنسحاق وأنت " محشور" فى وسائل المواصلات؟.. مختنقا في " طابور" من الطوابير؟.. صامتا لا تردد سوي النغمة المعتمدة المقبولة؟.. الكل يتسول.. يتوسل.. يهان.. الفارق فقط في حسن هندام.. وبضعة قشور ثقافة نستعلي بها على أصحاب الملابس البالية.. والوجوه المسودة من عفار الطريق..
" عم هارون" إنسان في المقام الأول والأخير..كان كتلة من المتناقضات.. وهل الإنسان سوي تشظي للمتناقضات؟
في ثورة يناير ٢٠١١ تولي "صبيانه" حماية المنطقة وتشكيل " اللجان الشعبية".. وفي نفس الفترة كان وسيطا في إعادة السيارات المسروقة لأصحابها مقابل نصيبا مفروضا..تناقض بالتأكيد.. خير وشر.. تحت المسام ونسيج الجلد.. عالم مضطرم غامض مبهم.. معان تتصارع وتتبارز.. يقهر أحدهما نقيضه.. لينتصر النقيض على القاهر في جولة أخرى..صراع أبدى بلا حسم.. تحت طبقة الكساء والنسيج والملامح الرقيقة بركان يمور ويثور ويصطرع.. نحن الجناة والضحايا في تلك الحرب غير المنظورة.. قابيل وهابيل.. ثم نلعن الغراب ونتشائم من نعيقه.. نمضي بسوءاتنا.. نلعن من يواريها .. لم نتعلم شيئا بعد.. أو بالأحرى نتعلم لننسي بعد قليل.. اللعنة على تلك الحرب المهلكة..
(٣)
في أيامه الأخيرة.. كان يجلس جلسته المفضلة على الرصيف.. بدا منحنيا بغير إدعاء تلك المرة..لاح غارقا في جلبابه " البني" الملئ بثقوب البلي والسجائر .. نحل بدنه بشكل ملحوظ..تجاعيد وجهه بدت من تراب الطريق كخطوط سوداء تصرخ بعبث الزمان وسطوته.. " الشال" المعصوب على رأسه تهدل بغير إعتناء.. أصابع قدمه المشقوقة تبرز من حذائه الممزق.. يحاول التحديق بعينيه المرمدة ومراقبة حركة الميدان..يسعل كل حين بشدة لا يتوقف سوي للبصق ويعود يسعل من جديد.. لحيته البيضاء صارت كثيفة طويلة " كاللوف" أكسبته بجدارة لقب " الشيخ هارون".. كم نحن لطفاء عندما نسبغ لقب " شيخ" على كل ذو شيبة ولحية وهيبة..مكاسبه الجمة من مهنته لم تنسه عاداته.. المألوف.. الإنسان عدو كل مستغرب.. كل ما نكر.. صديق لما عهد وعلم وألف..على هذا الطوار مجلسه. بين ألواح الخشب مسكنه.. في زجاجات الخمر الرخيص ولحظات المجون بهجته.. وسط "الصبيان" قوته وسطوته.. هل يودع كل ذلك لأجل عالم غامض من الرفاه ورغد العيش؟.. الحياة إختيارات.. تجبرك أحيانا على أشياء.. تخالها خيارا .. لكنها خيارك الوحيد... حيث لا سبيل آخر سوي المجهول..
عشرات أصحاب مصلحة في مقتل " عم هارون".. لم تتمكن الشرطة من ضبط قاتله.. وقيدت الجريمة ضد مجهول.. " ولما لم يتقدم أحد لإستلامه.. أمرت النيابة بدفن الجثة في مقابر الصدقة..".. بقى مكان " عم هارون" خاليا على الطوار.. وهدم البيت الخشبي في حومة تطوير .. وإن بقى " أبناء هارون" يهيمون في الطرقات.. كل الطرقات..