- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
مدى الفاتح يكتب: السودان: عن المحاولة الانقلابية الفاشلة
مدى الفاتح يكتب: السودان: عن المحاولة الانقلابية الفاشلة
- 2 مايو 2023, 3:59:51 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
إذا نحينا الاتهامات جانباً وتحلينا بحسن الظن الكافي لاعتبار أن كل هذه الجرائم الغريبة الحاصلة في الخرطوم من اقتحام للبيوت والمتاجر، وجرأة على التخريب والفوضى، ليست سوى مجموعة من الأعمال الفردية، وأنه لم تكن توجد أي نية مسبقة من قبل ميليشيا «الدعم السريع» لترويع الأهالي، أو لإرهابهم، خاصة أن ذلك يساهم بالضرورة في سحب تعاطف المتعاطفين مع الحركة المتمردة وظهورها بمظهر الخائض لحرب ثلاثية الأبعاد ضد الجيش والدولة وعموم المواطنين.
يمكن أن نمضي في حسن الظن لما هو أبعد من ذلك، لنعتبر أن قيادة الميليشيا الممثلة في الأخوين عبد الرحيم ومحمد دقلو «حميدتي»، ليست راضية عن هذه الممارسات المستنكرة والتي لا يقرها أي منطق حرب، لاسيما في بلد كالسودان، لكن كل هذا الظن الحسن لن يعفي هذه القيادة مما آلت إليه الأمور، كما أن التذرع بأن هناك جهة ثالثة استولت على سيارات ولباس هذه القوات، وانتحلت صفتها من أجل تشويه صورتها، أيضاً لا يصمد كثيراً أمام المنطق والمشاهدات، التي تجعل الأمر أشبه بالحالة العامة في المناطق، التي وصلت إليها تلك الميليشيا التي بدأ المواطنون، الذين يتناقلون مشاهد تسورها للبيوت والبنوك، يطلقون على أفرادها اسم «النهب السريع».
تعيدنا هذه الأفكار إلى الحقيقة الأولى وهي أن هذه القوات ليست متدربة بما يكفي، وأنها تحتوي على الكثير من الهواة، الذين تمت الاستعانة بهم للقتال مقابل المال، والذين لا يملكون لا العلم الكافي، لأن العسكرية هي أيضاً علم، ولا الخبرة التي تسمح لهم بقيادة معركة معقدة والبقاء بشكل متناسق ومنتظم ضمن ألوية تحوي، وفق ما يشاع، أكثر من مائة ألف مقاتل. هذا الافتقار إلى التدريب والتنظيم المتزامن مع قطع خطوط الاتصال، أدى إلى تصرف كل مجموعة من هذه القوات بشكل فردي ووفق ما تراه من مخططات لضمان سلامتها واستدامة تموينها. أنتج كل ذلك، بجانب عدم وجود إدارة موحدة وخطة واضحة للمعركة، هذه الصورة الفوضوية.
كلمة «انقلاب» وصف معبر عن حقيقة ما جرى، إذ لم يكن مجرد «تمرد» هامشي من بعض العسكريين أو مجرد رفض للأوامر، وإنما محاولة للتغول على الدولة وابتلاع مؤسساتها
تذكر هذه الحالة من الفوضى وفقدان التنسيق بعبارات كان ونستون تشرشل علل بها أسباب هزيمة الجيش الغازي للسودان في معركة شيكان 1883، حين قال إنه كان جيشاً مختلطاً وغير منضبط، على الرغم مما كان يملكه من عتاد، بل إنه، وفق تعبيره، كان «أسوأ جيش سار على وجه الأرض». تنتج عن هذا الواقع حقيقة أخرى وهي أن إدماج «الدعم السريع» في القوات المسلحة كان سيكون ذا فائدة كبيرة في المقام الأول لأولئك المقاتلين، الذين يملك بعضهم حماساً ورغبة في الخدمة العسكرية، وأنه بذلك الإدماج كان يمكن الانتقال بهم من ضيق المشروع الحالي، الذي يرتبط بشخص واحد أو أسرة واحدة إلى مشروع وطني واسع وعقيدة لا ترتبط بشخص ولا جهة. كان المندجمون، لو رضوا بعملية الدمج التي كان مخططاً لها أن تقتصر على فترة لا تتجاوز العامين، سيتعلمون أن عملهم في الجيش، على عكس منطق الميليشيا، لا يعني الارتباط بالقيادة العسكرية الحالية، التي قد تتغير لأي سبب، كما سيتعلمون، بعد تصفية المقاتلين الأجانب من بينهم، كيف يمكن أن يكون الولاء الوحيد للأرض والوطن. في منطق المتمردين العسكريين والمتضامنين مع الميليشيا من المدنيين، فـ»الدعم السريع» هو ضحية هجوم استباقي قام به الجيش لافتعال الحرب والسؤال هنا هو: إذا كان الأمر في حقيقته كذلك، فلماذا لم تبادر قوات حميدتي إلى الانسحاب، ولماذا لم يتواصل الأخير مع القيادة العسكرية بشكل مباشر موضحاً ما حدث، بدل أن يستمر في القتال ويزايد بمحاولة السيطرة على المناطق الحيوية والقيام بانقلاب كامل لإزاحة رئيس المجلس السيادي والانفراد بالسلطة؟
كلمة «انقلاب» وصف معبر عن حقيقة ما جرى، الذي لم يكن مجرد «تمرد» هامشي من بعض العسكريين أو مجرد رفض للأوامر، وإنما محاولة للتغول على الدولة وابتلاع مؤسساتها. تجنب هذا التوصيف والاستعاضة عنه بالحديث عن التمرد أو الصراع بين طرفين لا يدخل إلا في باب التقليل من الحدث. هناك شيء جدير بالملاحظة حينما يتعلق الأمر بوصف تحرك ما بأنه «انقلابي»، وهو أن هذا التوصيف في الغالب نسبي، وكأن من الصعوبة أن يتفق الجميع عليه، وهو أمر صعب فعلاً إذا كان كل أحد ينظر وفق منظار مصالحه. هكذا لا يكون الانقلاب شيئاً سيئًا بالنسبة لمن يرغبون في التخلص من نظام معين، بل يمكن أن يبادروا لوصفه بالتصحيح أو حتى الثورة، والعكس بالنسبة للمستفيدين من النظام، الذين يعتبرون أي محاولة لتقويضه جرماً ضد الدستور، وإن لم يكن هناك دستور.
في مقال نشرته العام الماضي في صحيفة «القدس العربي» تحت عنوان: «انقلابات السودان المجيدة» علقت على المفارقة التي يمكن أن تحويها صورة كاريكاتيرية منقسمة إلى قسمين يظهر في قسمها الأول رئيس الوزراء المتنحي عبد الله حمدوك وهو محاط بمجموعة من الناشطات الشيوعيات في احتفال بذكرى انقلاب هاشم العطا على الرئيس جعفر نميري، والذي يوافق التاسع عشر من تموز/ يوليو، في حين تظهر في قسمها الثاني صورة لسياسيين وعسكريين وهم خلف أسوار السجن بعد اتهامهم بالمشاركة في انقلاب البشير عام 1989. تظهر هذه المفارقة كيف يمكن أن تكون التوصيفات سائلة، فالانقلاب المرضي عنه يتحول لمجرد «حركة تصحيحية» عند المتحمسين له، أو حتى «ثورة» تستحق التمجيد، في حين يكون التغيير السياسي الذي لا يصادف أهواء المتلقين خروجاً عن الدستور وعن الشرعية، حتى إن انطلق من أرضية تخلو من تلك الشرعية. هكذا كان الحال في السودان وفق أمثلة لا سبيل لحصرها وصولاً لانقلاب محمد حمدان دقلو، الذي لا نتوقع أنه كان سيحظى بالإدانة الكافية، في حال كتب له النجاح، من قبل المجموعات التي كانت ترجو أن يرفعها إلى السلطة، بل ربما كانت ستستميت في الدفاع عن شرعيته ونضالاته من أجل الحرية والديمقراطية، وهو ما قام به البعض بالفعل وبشكل مسبق منذ بداية الأحداث سعياً ربما لحجز مقعد في الخريطة السياسية المستقبلية. السؤال الذي يشغل كثيرين في ظل تواصل حالة الاستنفار والكر والفر في الخرطوم هو: هل فشل انقلاب حميدتي؟
حسب الخبرة التي اكتسبناها في منطقتنا، التي شهدت الكثير من الأحداث المماثلة، يمكننا القول إن الانقلابات تعتمد على عنصر المباغتة، بهذا فإن الساعات الأولى تكون هي المحددة لمدى النجاح أو الفشل، فإذا استتب الأمر للسلطة الجديدة وفق فترة زمنية قصيرة يكون الانقلاب حقق أغراضه، أما إذا تم تقويض عملية التغيير وبدأ تطويق المتمردين فإن هذا يعني، في غالب الأحوال، الفشل. وفق هذا المبدأ، فإن ما يظهر هو أن الانقلاب فشل، فعلى الرغم من محاولة أصحابه الاستفادة من عنصر المباغتة ومن توزع قواتهم في مناطق حيوية داخل الخرطوم وخارجها، بما في ذلك المطارات والقصر الرئاسي والقيادة العسكرية، إلا أن حميدتي لم يستطع إكمال السيطرة في الوقت المطلوب. جعل هذا الأمر يتحول من عملية انقلابية خاطفة كان يفترض أن تنتهي باستبدال القيادة العسكرية والسياسية، إلى حرب فعلية، ربما لم تكن القوات «المختلطة»، باستعارة تعبير تشرشل، تتوقع خوضها.