- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
نور الدين ثنيو يكتب: الاعتراف… الذاكرة والدولة
نور الدين ثنيو يكتب: الاعتراف… الذاكرة والدولة
- 17 مايو 2023, 3:50:03 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم يعد الحديث يجري فقط حول قضايا التاريخ، سواء في حِقَبِه الماضية، أو في فتراته الحديثة والمعاصرة، فاللحظة المعاصرة في كثافتها وتعقدها أوحت إلى ضرورة مرافقة الذاكرة للتاريخ، كأفضل مقاربة للوقوف على الحَدث وتحمّل مسؤولياته. فالسرد التاريخي لا يمكن أن يُفْصَل عن الذاكرة التي تؤكد بشكل حي ما إذا كان الحدث قد وقع فعلا، وكيف تم ذلك ودرجة معقوليته ومصداقيته؟ لأننا صرنا اليوم ندرك عبر البحث الجامعي والأكاديمي، أن المؤرخ أيضا يصنع التاريخ، بكشف واكتشاف الجوانب المتوارية عن مجال الدراسة والشخصيات التي هُضِمت حقوقها في صناعة الحدث، وفي بناء تاريخ الأمة والدولة والعالم.
وعليه، فتناول التاريخ لم يعد يكتفي بذاته، بقدر ما صار يلح ويحث على الذاكرة، وكيف يمكنها أن تصنع الحدث ليس بما هو جزافي ومجاني، بل بما هو معقول وصحيح، ولو نوعا من الصحّة.. ويكفي فقط أن نقرأ من كتبوا مذكراتهم لكي نرمي ركاما كبيرا منها إلى سلة المهملات من فرط انحرافها الفج عن الحق والحقيقة، فالذاكرة، خاصة منها ذاكرة الأمة في صلتها بروايات الأشخاص والعائلات، وفي علاقتها بالخطاب الرسمي والوطني، معيار ووعاء لرسم الحقيقة الضائعة في التاريخ المحلي والعالمي، على حد سواء، على اعتبار أن علم التاريخ في آخر تطوراته يبحث وينَقِّب ويعالج إشكاليته كافة، في إطار التاريخ الشامل أو العالمي.
موقف الصفح والاعتذار والتكفير عن إثم الماضي، يحتاج جدارة واستحقاق صاحبه، لأنه يتم في الغالب من سلوك مذنب الأمس وليس من كان عرضة للجريمة
ومن هنا، يجب الحذر من الكتابات الخفيفة التي لا تلتزم بأي واجب التذكير والتَّذَكر، وتهضم حقوق من تحاول أن تدرسهم، مثل المدارس الاستعمارية في سياقها البغيض، عندما أقبلت على تبرير الاحتلال بتبخيس مكَوِّنات ومقومات الأهالي الحضارية والاجتماعية والدينية.. وإذا كان الاستعمار واحدا والأرض واحدة فإن الذاكرة أكثر من موضع وأكثر من موقع، بحيث لا تظهر الرواية الواحدة إلا بقدر ما تظهر ذاكرات ليس بداية من المعطوبة والجريحة، وليس انتهاء إلى المنسية والمهملة، وعليه، فالتاريخ والذاكرة حالة متلازمة ومعقدة تتداخل فيها شبكة من الاعتبارات والمظاهر، التي تتعدى الفرد إلى أفراد وتتخطى الجماعة إلى جماعات، كأفضل طريقة للوقوف على ما جرى فعلا، أو قريبا منه. يجري الحديث عن الذاكرة بمعية الأخلاق، التي طالما غيبت في العهد الاستعماري. وقد انتظرنا مرور ردح من الزمن لما بعد الكولونيالي لكي نكتشف مدى الدمار الكبير الذي أحدثته أنظمة العبودية والعنصرية والاستعمار في أزمنتها التي كان يغلب عليها الصمت والتستر على جرائمها، وبشاعة تصرفاتها والتغطية عليها بالقدر الذي صارت فيه في حكم المعدوم، أو تواريخ لأيام مرت دون أن تسجل وقائعها. فما نجهله عن هذا التاريخ أكثر بما لا يحصى ويقاس عما نعرفه.. ومن هنا دخول مقاربة إشكالية: «ما لا نعرفه عن التاريخ» إلى حيز البحث العلمي والأكاديمي في المؤسسات العلمية والبحثية في كل العالم، لما توفره من أدوات ومقاربات وطرق الحصول على نتائج دراسية مهمة جدّا في كشف الجرائم والتصرفات الجارحة، لقيم الإنسان والأمة والدولة. فما يرافق الذاكرة مجموعة من المفردات، مثل: الآثام، الذنوب، التهم، الإدانات والمحاكمات.. أي حالات يتولّاها القضاء الذي يريد أن يقتص من الماضي على ما تتصوره ذاكرة الأفراد والعائلات والأمم. وفي تجربة تاريخ فرنسا في الجزائر المستعمرة وما بعدها، حيث رتب بالضرورة وبحتمية مطلقة أن ما سيسفر من معارك وحروب وقمع جماعي، يندرج ضمن الحروب الداخلية والأهلية، التي تتحمل ويلاتها وأوزارها الدولة الفرنسية، من الناحية القانونية والإنسانية على السواء، لأنها من فعل تشريعي ومؤسساتي فرنسي، وعليه، فالوعي المتزايد بتصفية آثام الأمس يظهر أول ما يظهر عند من ارتكبوا تلك الأفعال، على ما اعترف به الجنرال الفرنسي أوزاريس. فالذاكرة الفرنسية محملة بكثير من الجوانب المظلمة والمكفهرة، التي تأبى العيش والحياة بالندم الأبدي على ما صدر من سوء أعمال يأباه الإنسان المعاصر. وفرنسا كبلد ديمقراطي، مثلها مثل ألمانيا، ذات مؤسسات مستقلة ومنزهة عن الأشخاص والأغراض البشرية والحزبية الضيقة، تكشف عن مجالات وفضاءات بينة وواضحة، تظهر فيها الحقائق ولا تقبل الكتمان والتستر والمواربة، ومن ثم يمكنها أن تباشر عملية التخلص من حالة تبكيت الضمير، وتضميد جراحات الذاكرة وإصلاح عطب التاريخ بينهما.. الأمر الذي لم يحصل بعد للشعوب المستضعفة التي بقيت مصممة على الاعتذار، وتقديم التعويضات، مثل حالة الجزائر التي تتحفظ رسميا، وتترك الجماهير في غوغائيتها وشَعْبَوِيَّتِها، تواجه الاستعمار بمطالب لا يمكن أن تتحقق، لأنها ليست الجهة المؤهلة في هذا المجال. في المحصلة والتعبير الأخير، فإن الاعتذار وطلب الصفح وإمكانية إصلاح عَطَب التاريخ يمكن أن يتم بين أمتين متحضِّرتين ومتقدمَتين بالقدر الكافي، الذي لا يثير فعل الاعتذار أي حفيظة، ولا تذمر لدى الطرفين معا، لأن مؤسساتهما قائمتان ومتماسكتان تستوعب كل تداعيات الموقف، ويؤهلها حالا إلى تعاون كبير تختصر عقودا من الأزمنة الضائعة لو استمر العداء بينهما. فموقف الصفح والاعتذار والتكفير عن إثم الماضي، يحتاج إلى جدارة واستحقاق صاحبه، لأنه يتم في الغالب من سلوك مذنب الأمس وليس من كان عرضة للجريمة… لأننا في عصر مؤسسات مجتمع دولي يستند إلى معيار الجدارة والاستحقاق، لأن هذا المجتمع الدولي ممثل في هيئة الأمم، هو الذي يمنح شرعية العضوية كدولة، لكنها أخفقت في التواصل مع شعبها ومع المجتمع الدولي، وآثرت استغلال الذاكرة والتاريخ معا، تعبيرا منها عن حالة إفلاس مزمن، لم تتخلص منه إلا بسياسة إرجاء بناء وتكريس مؤسسات الدولة الجديرة بالعضوية في هيئة الأمم المتحدة. لا يمكن أن نمسح الطاولة كما يقال، أو نضرب صفحا عن كل ما حدث في الماضي، الجرائم الفادحة لا تتقادم، بل يمكن دائما الوقوف عندها بالاعتراف والفهم والتَّفَهم، وشرح معطياتها وأسبابها والمسؤولين عنها، كأفضل سبيل إلى عدم تكرار الفعل المُنْكر والتَّصَرف الغاشم، لأنه على ما يبدو، أن الإنسانية في عصرها الفائق لم تعد تقوى على الدمار والخراب، لأن وقع الفعل يرتب أضعافا مضاعفة من ردود الفعل، وما بعد الفعل، خاصة بعد وسائل التدقيق والكشف والتحقيق، التي قد تورط الجميع في عمليات تحديد المسؤوليات على ما نشاهد ونلحظ في محاكمة مجرمي الحرب وصناع الحروب والمتاجرين بأرواح البشر.