- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
هشام جعفر يكتب: لاهوت الاستبداد في المنطقة العربية
هشام جعفر يكتب: لاهوت الاستبداد في المنطقة العربية
- 31 مارس 2023, 3:21:31 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في هذا المقال نحاول أن نتجاوز الجدل العقيم الذي ساد طوال عقود حول علاقة الإسلام بالديمقراطية، والعلاقة بين الدين والدولة، وكذلك الإسلام والحداثة.. إلخ وكل هذه الإشكالات التي حكمت التفكير العربي والغربي على السواء في النظر إلى الظاهرة الدينية في منطقتنا العربية. منهج النظر هذا جعل الإسلام والمسلمين، وكذلك العرب والإسلاميون استثناء من دون الأديان والأمم والشعوب والجماعات، وغلبت معه الحتمية الثقافية وصراع الحضارات، الأمر الذي بدوره سيغذي في المستقبل صدام الهويات.
وفق هذا المنظور لا يمكن توطين الديمقراطية في عالم المسلمين لوجود ثقافة مضادة لها وسط تجاهل أن الثقافات تتغير وتتبدل، ووفق هذا المنظور أيضا يشهد النقاش إغفالا للعوامل الهيكلية الأخرى من قبيل تطور هياكل الدولة والعلاقة بين الاقتصاد السياسي لدولة ما وموقعها في السوق الرأسمالية العالمية وبين طبيعة النظام السياسي والحركات والقوى الاجتماعية داخله.
بينما يجادل كثيرون بأن الفصل بين الدين والدولة عنصر أساسي للديمقراطية، يفترض آخرون أن الدين عنصر أساسي من الأسس الأخلاقية للديمقراطية
نحن بحاجة إلى تجديد مناهج النظر بإعادة طرح الأسئلة من جديد وتجاوز أسئلة من سبقنا، ونقطة البدء هي النظر الواقعي المقارن لا الثقافي والفكري، مع دمج التطور التاريخي في الواقع المعيش. وإذا كان لا بد أن نستدعي الثقافي والفكري -وهو حتما آت لا ريب فيه- فمن خلال ما يثيره الواقع من قضايا وما نستخلصه من التاريخ من ممارسات.
إن دولا قليلة تفصل بين الدين والدولة، لذا فإن العلاقة بين الدين والدولة وكذلك المجتمع معقدة وغير مفهومة تماما وتختلف وفق التقاليد الدينية الموروثة والتطور التاريخي، بل تتباين داخل التقليد الديني الواحد من حقبة تاريخية إلى أخرى وبين المناطق الجغرافية المختلفة.
يختلف التقليد الإسلامي في آسيا عنه عن المنطقة العربية، وفي داخل المنطقة العربية تتباين التقاليد فيها وفق طبيعة كل دولة. فضلا على ذلك، فإن المنظور الذي يرى المرء من خلاله هذه العلاقة يؤثر على استنتاجاته فيما يتعلق بطبيعتها، فمن يتبنّى النظام العلماني فإنه يرى هذه العلاقة تثير المشاكل والإشكالات، ومن يتبنى الوصل بين الاثنين يراه طبيعيا. هذا التعقيد لا يمكن فهمه إلا من خلال أسطورة أوراكل اليونانية في دلفي، الذي سئل ذات مرة: من كان أذكى شخص في العالم؟ فكان جوابه "سقراط"، وعندما سمع سقراط عن هذا كان مرتبكا في البداية لأن شعوره بنفسه أنه لا يعرف شيئًا.
عند التفكير، استنتج سقراط أن أوراكل قد أعلنه أذكى شخص في العالم لأنه على الرغم من أنه لا يعرف شيئًا فإنه على الأقل يعرف أنه لا يعرف شيئًا.
وفي تراثنا فإن العالم لا يزال عالما ما قال لا أعلم، فإن قال علمت فقد جهل. لطالما اعتقد باقي الناس في العالم أنهم يعرفون شيئًا ما، لكن لطالما كانت معرفتهم المفترضة غير صحيحة أو غير دقيقة أو تحتاج إلى إعادة نظر.
هل تفصل الديمقراطيات بين الدين والدولة؟
بينما يجادل كثيرون بأن الفصل بين الدين والدولة عنصر أساسي للديمقراطية، يفترض آخرون أن الدين عنصر أساسي من الأسس الأخلاقية للديمقراطية. تفحص دراسة رائدة هذا النقاش باستخدام بيانات مقارنة لـ156 دولة ترصد العلاقة بين الدين والدولة وبين مسألة الديمقراطية. بشكل عام، تظهر النتائج أن الغالبية العظمى من الديمقراطيات ليس لديها فصل بين الدين والدولة، لكن تميل الديمقراطيات إلى أن تكون لديها درجة متوسطة من مستويات انخراط الحكومة في تنظيم الشأن الديني، وهو أقل من الأنظمة غير الديمقراطية التي لديها مستوى عال من تنظيم هذا المجال والتدخل فيه.
معظم الديمقراطيات ليس لديها هذا الفصل، إلا أن هناك حدا أعلى لمقدار تدخلها في تنظيم الشأن الديني، ويبدو أن هذا لا ينطبق على الأنظمة غير الديمقراطية التي لديها تدخل أعلى بكثير في تنظيمه. كل هذا يشير إلى أن السؤال الصحيح فيما يتعلق بالدين والديمقراطية ليس سؤالًا عن الفصل بين الدين والدولة، بل بالأحرى سؤال عن مقدار وأنواع وأشكال تنظيم المجال الديني التي يمكن أن تتحملها الديمقراطيات.
ووفق مؤشرات مركز بيو الأميركي الرائد في استطلاعات الرأي، استمر المستوى العالمي المتوسط للقيود الحكومية المفروضة على الدين -أي القوانين والسياسات والإجراءات التي يتخذها المسؤولون والتي تتعدى على المعتقدات والممارسات الدينية- في الارتفاع، حيث بلغ أعلى مستوى له على الإطلاق منذ أن بدأ المركز في تتبع هذه الاتجاهات في 2007 على مدى أكثر من عقد.
في عام 2007 وهو العام الأول من الدراسة كان الوسيط العالمي لمؤشر القيود الحكومية (مقياس من 10 نقاط يعتمد على 20 مؤشرًا) هو 1.8. وبعد بعض التقلبات في السنوات الأولى، ارتفع متوسط الدرجة ارتفاعا مطردا منذ عام 2011 ويبلغ الآن 2.9 لعام 2018. وبدءا من عام 2018 وجد أن معظم الدول الـ56 التي لديها مستويات عالية أو عالية جدا من القيود الحكومية على الدين تقع في منطقة آسيا والمحيط الهادي (25 دولة أو نصف جميع البلدان في تلك المنطقة) ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعدد 18 بلدا من هذه البلدان أو 90% من جميع دول المنطقة.
ومن بين المناطق الخمس التي فحصتها الدراسة، استمر الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في التمتع بأعلى مستوى متوسط للقيود الحكومية، ففي عام 2018 بلغ 6.2 من 10، ومع ذلك شهدت منطقة آسيا والمحيط الهادي أكبر زيادة في متوسط درجات القيود الحكومية، حيث ارتفعت من 3.8 في عام 2017 إلى 4.4 في عام 2018، ويرجع ذلك جزئيا إلى استخدام عدد أكبر من الحكومات في المنطقة القوة ضد الجماعات الدينية، بما في ذلك الإضرار بالممتلكات والاحتجاز والنزوح والاعتداء والقتل.
وفي حين أن منطقة آسيا والمحيط الهادي سجلت أكبر الزيادات في درجات مؤشر القيود الحكومية الخاصة بها، إلا أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تزال تتمتع بأعلى مستوى متوسط للقيود الحكومية، حيث حصلت على 6.2 نقاط على المؤشر ارتفاعًا من 6.0 في عام 2017، أي أكثر من ضعف المتوسط العالمي (2.9)، وعند أعلى نقطة له منذ فترة ما بعد الربيع العربي في عام 2012.
وكما هو الحال في آسيا، كان الارتفاع في درجات مؤشر التدخل في الشأن الديني في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يرجع جزئيا إلى استخدام مزيد من الحكومات للقوة ضد الجماعات الدينية. أبلغت جميع دول المنطقة باستثناء دولة واحدة عن استخدام الحكومة للقوة فيما يتعلق بالدين في عام 2018 على الرغم من أن العديد منها كان في أدنى مستوى (بين حادث واحد و9 حوادث).
هل هناك علاقة بين زيادة تدخل الدولة العربية في تنظيم الشأن الديني وتصاعد الثورة المضادة في المنطقة بعد الربيع العربي؟
هو سؤال يستحق المتابعة، وعما إذا كانت هناك صلة بين النماذج المختلفة للحكومة ومستويات القيود المفروضة على الدين، أو بعبارة أخرى إذا كانت القيود المفروضة على الدين تميل إلى أن تكون أكثر أو أقل شيوعًا في البلدان ذات الديمقراطيات الكاملة أو الجزئية منها في تلك ذات الأنظمة الاستبدادية؟
وجد تحليل "بيو" ارتباطًا قويا بين الاستبداد والقيود الحكومية على الدين، ففي حين أن هناك العديد من الاستثناءات لهذا النمط مثل الولايات المتحدة فإن الأنظمة الاستبدادية أكثر شيوعًا بين البلدان التي تفرض قيودًا حكومية شديدة على الدين، فما يقرب من ثلثي هذه البلدان (65%) مصنفة على أنها سلطوية، وفي الوقت نفسه من بين البلدان ذات القيود الحكومية المنخفضة على الدين 7% فقط سلطوية.
الديني بين الاستلحاق والقمع
يمكن فهم تنظيم المجال الديني على أنه محاولة من النظام للتمييز بين مسؤوليات الدولة وبين الفاعلين الدينيين، وحاجة النظام إلى إبقاء الفاعلين الدينيين تحت السيطرة سواء باستلحاقهم أو بقمعهم. يشير البحث حول الاستبداد المقارن إلى أنه لا ينبغي دراسة الاستلحاق والقمع للديني بمعزل عن بعضهما بعضا. وباتباع هذا المنطق، تجب دراسة التأييد الإيجابي والقيود السلبية المتعلقة بالديني في الدول الاستبدادية بشكل مشترك. إن الاستلحاق يمكن فهمه على أنه وسيلة للنظام للتعويض عن هشاشته تجاه مجموعات الضغط المختلفة، ويعبر في أحيان أخرى عن أزمة الشرعية؛ أي مدى رضا المواطنين عن سياساته أو على أقل تقدير عن التنازع عليها.
ويمكن فهم الاستلحاق والقمع والشرعية على أنها "الركائز الثلاث" لاستقرار النظام الاستبدادي، وغالبًا ما يُفهم الاستلحاق على أنه استخدام نوع من الامتيازات من قبل النظام لكسب المجموعات والأفراد المهمينة إستراتيجيا في المجتمع. والغرض من جهة هو توسيع قاعدة الدعم للنظام، ومن جهة أخرى ربط المجموعات المختارة بالنظام، بحيث تكون لها مصلحة راسخة في بقائه.
يُقال هنا إنه على الرغم من أن الجماعات الدينية تهتم بالرموز والخطاب والطقوس، فإن الاهتمام الرئيس لهذه الجماعات هو حمل الدكتاتور على إدخال (أو دعم القوانين واللوائح الموجودة بالفعل)، والتي تحكم الناس وفقًا للمبادئ المنصوص عليها في التعليم الديني، ومن ثم قد يمتد التقديس إلى جميع جوانب المجتمع.
هنا ملاحظة جديرة بالاعتبار تقول إن الأنظمة وجماعات الإسلام السياسي رغم ما بينهما من صراع فإنهما يشتركان في تصور للديني يستند إلى السلطة في تطبيقه وتنزيل تعاليمه في أرض الواقع. ويمكن فهم القمع على أنه "إجراء حكومي أو خاص يهدف إلى منع العمل الجماعي غير المؤسسي أو السيطرة عليه أو تقييده. نتوقع من القادة الاستبداديين الذين يرغبون في منع العمل الجماعي والسيطرة عليه أو تقييده أن يضعوا قيودًا سلبية على كل من الأنشطة السياسية وموارد العمل الجماعي للجماعات والمؤسسات الدينية.
ويمكن أن يتكون قمع الموارد الأخلاقية -على سبيل المثال- من التحكم في محتوى الخطب الدينية والمواد الدينية والخطاب الديني؛ فقد يستخدم النظام الدعاية والمعلومات المضللة من أجل تشويه سمعة السلطة الأخلاقية للجماعات الدينية. أما فيما يتعلق بقمع الموارد البشرية، فقد يعلن النظام -على سبيل المثال- أن العضوية في المنظمات الدينية غير قانونية، أو يطبق قمع حقوق السلامة الجسدية على الأفراد الأعضاء (النشطين) في مجموعة دينية.
القادة مهمون للحركات الاجتماعية؛ فهم يلهمون الالتزام، ويحشدون الموارد، ويخلقون الفرص ويعترفون بها، ويبتكرون الإستراتيجيات، ويؤطرون المطالب، ويؤثرون على النتائج. ونتيجة لذلك، تمتلك الأنظمة الاستبدادية دافعًا قويا لممارسة السيطرة على قيادة المؤسسات الدينية. وتُعد سيطرة الحكومة على ترشيحات رجال الدين أداة قوية للنظام للتأكد من أن الأفراد الموالين للنظام فقط هم من يحصلون على مناصب أعلى الهرم الديني.
وبقمع الموارد المادية، قد يحد النظام من وصول الجماعات والمؤسسات الدينية إلى الموارد المادية من خلال أدوات مثل الضرائب الباهظة، والقيود المفروضة على المساهمات التطوعية للمنظمات الدينية، وتنظيم تدفقات الأموال الأجنبية. وفي الحالات القصوى، قد يصادر النظام ممتلكات الجماعات الدينية أو يؤممها.
في الواقع، على الرغم من أن الدكتاتور يأمل أن تكون للمجموعة المختارة مصلحة راسخة في بقاء النظام، هناك دائمًا خطر أن تتحول المجموعة أو المؤسسات المختارة في مرحلة ما من صديق إلى عدو. ولمنع حدوث ذلك، من المعقول أن نفترض أنه حتى المجموعات المختارة تحتاج إلى السيطرة عليها ببعض القمع على الأقل أو إذكاء التنافس بينها كما يجري بين دار الإفتاء والأزهر في مصر.
إذا قرر الدكتاتور استخدام القمع بشكل أساسي كأداة للسيطرة على الجماعات والمؤسسات الدينية، فيمكن الافتراض أن الدكتاتور يهدف إلى منع سلوك الجماعات والمؤسسات الدينية والسيطرة عليها وتقييدها على جميع الجبهات. وإذا قرر الدكتاتور استخدام كل من الاستلحاق والقمع، فإنه يحتاج إلى تحقيق توازن صحيح بين الاثنين.
على سبيل المثال، كجزء من عملية الاستلحاق، ربما يكون الدكتاتور قد منح الجماعات المستلحقة بعض الحقوق، مثل الحق في التجمع في المناسبات الدينية. ولذا فإننا نتوقع وجود اختلافات نوعية في القمع اعتمادًا على ما إذا كانت الجماعات الدينية المقموعة قد احتويت أم لا. وهكذا، يمكن القول إنه لا توجد إجابة سهلة عما إذا كان التدين يعزز أو يعيق الالتزام بالديمقراطية.
أشارت بعض الآراء إلى التدين كمصدر للتوجهات المناهضة للديمقراطية، ومع ذلك فإن الأدلة التجريبية الحديثة أقل حسمًا، وذلك يشير إلى أن تأثير التدين على الالتزام الديمقراطي يمكن أن يكون إيجابيا أو سلبيا أو ملغى، وعندئذ يصبح السؤال: وفق أي شروط موضوعية يمكن أن تتحقق هذه الثلاثة؟