- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
وسام سعادة يكتب: الديمقراطية التي تعسّفوا بحقّها مرّتين
وسام سعادة يكتب: الديمقراطية التي تعسّفوا بحقّها مرّتين
- 25 مارس 2023, 2:56:57 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
هل أُخرِجت موضوعات الديمقراطية من دائرة البحث بالنسبة إلى مجتمعات هذه المنطقة من العالم، أقلّه بالنسبة إلى هذا الجيل؟ ثمّة في المناخ العام ما ـ ومن ـ يريد أن يوحي لنا بأن الأمور باتت بالفعل تسير على هذا النحو، وأنّ حصيلة العزف الزائد والرتيب على لحن الديمقراطية كيفما كان، وبلا طائل، طيلة العقود المنصرمة، أنه أتلفت بالنتيجة الحاجة إليها، وما عاد بالإمكان إعادة تأهيلها من حيث هي فكرة ومن حيث هي مشروع، قبل أن تنقلب عجلة الزمان دورات إضافيات، وتتأمن للديمقراطية الشروط المفقودة حتى الآن، من توطئة وتبيئة واشتداد عود وعناصر منعة في المجتمعات العربية والشرق أوسطية.
الغلوّ في الديمقراطية لعب في هذا المقام دوراً أساسياً في عملية استهلاكها السريع كفكرة طرحت على جدول أعمال مجتمعات المنطقة، بشكل أو بآخر بعد انتهاء الحرب الباردة، وبزلزال شعبي متنقل بين البلدان عام 2011، من خلال مجموعة انتفاضات جماهيرية سوّغت النظرة إلى لوحتها الشاملة، في لحظتها، على أنها بمثابة الربيع التحرّري للشعوب العربية. وهو تسويغ لا تبطله بالمطلق العثرات والخيبات التي تلته، وإن كانت الأمور عويصة أكثر من إمكانية الفصل بين «الربيع العربي في ذاته» وبين «الربيع العربي بالشكل الذي انحرف فيه أو مُسخ به».
لا يستفاد من الكلام عن «الغلو في الديمقراطية» هنا، أن مكثري الإلحاح عليها كانوا تواقين إلى تجذير نظرتهم إليها كطرح، أو مهمومين بكيفية عدم الاكتفاء بها كديمقراطية تمثيلية فقط، وكيفية نشدانها كإطار أكثر حيوية ومثابرة على صعيد مشاركة المواطنين والشعوب، بحيث لا تقتصر هذه المشاركة على صندوق الاقتراع في يوم الانتخاب، وبحيث لا ينفصل طلب الديمقراطية السياسية عن تأمين تلك الاقتصادية – الاجتماعية.
بالعكس تماماً، لم يبحث هذا «الغلو في الديمقراطية» الذي ساهم في تسحيرها كمفهوم، ومن ثم ابتذالها، عن معانيها وإنما أفتتن بأشكالها وما خاله أنه «رونقها».
هذا قبل أن تؤدي هذه المحدودية في الاستيعاب، المقرونة بإفراط في الترويج للديمقراطية كصنف، الى تسهيل انقلاب «الجميع» عليها في المنطقة العربية، والتسابق على الهزء بها، وتحطيمها كوثن باهت، بحجة أنه جربناه «ولم تنفع» أو «لم ننفع لها» والأولى الاهتمام بما هو لنا أنفع وأسلم. سيّان.
الديمقراطية هي الابنة السياسية لفكرة التناقض. هي سبيل لعيش التناقضات معاً، والحيلولة قدر المستطاع في تحولها إلى تناقضات تناحرية، وعدم الانحباس في تناقضات بعينها، وإنما التطور دائما باتجاه التصدي لتناقضات جديدة
لم يكن «الغلو في الديمقراطية» في منطقتنا جذرياً البتة في فكرته عن الديمقراطية، ولا أعتبر نفسه معنياً بالخوض في التحديات التي تواجهها الديمقراطية حيثما هي قائمة إلى حد كبير، في الحواضر الشمالية الغربية من النظام العالمي، أو حيث هي توسعت خارج هذا النطاق، بمعية موجات دمقرطة متتالية، بدءاً من الظروف التي حدت باليابان المحتلة والمهزومة الى اقتباس الديمقراطية التي على النمط الغربي، مع الحفاظ على خواص «سلطوية» وعائلية للسياسة فيها، ومنسوب أقل من الفردانية، ووصولاً إلى سقوط الديكتاتوريات في الجنوب الأوروبي في السبعينيات من القرن الماضي (أسبانيا، البرتغال، اليونان) وانضمام هذه البلدان الى الركب الأوروبي كضاحية له، ومن ثم تهاوي النظم التابعة للاتحاد السوفييتي في أوروبا الوسطى والشرقية نهاية الثمانينيات وانخراطها بشروط أصعب من بلدان الجنوب في البناء الأوروبي، وباهتزازات مقلقة لعملية التطور نحو الديمقراطية في المجر (لكن أيضا في بولندا ورومانيا) يوازيه التطور باتجاه الديمقراطية «بملامح آسيوية» في كوريا الجنوبية وتايوان وأندونيسيا، وبشكل أقل تفاؤلية في باكستان، واختلاط حابل الديمقراطية بنابل الشعبويات، يمينية ويسارية، في أمريكا اللاتينية، لكن أقله على قاعدة هجران «الحقبة الديكتاتورية العسكرية» الصرف. لقد قطعت الديمقراطية في نصف القرن الماضي مساراً مدهشاً يدلّ على «تكوننها» – أي اكتسابها سمة كونية. وفي الوقت نفسه، أدى تكوننها هذا إلى تنامي أشكال من التفاوت بين نماذجها وتجاربها وسياقاتها وهو تفاوت لا يمكن اختصاره بأن ثمة نموذجا أعلى تقترب منه النماذج اليانعة وهي تحبو نحو ثم تعجّل الخطى. وفي الوقت نفسه لا يمكن الركون أمام هذا التفاوت في التطور الديمقراطي على الصعيد العالمي إلى نسبوية ثقافوية عدمية من نوع أنه لكل بلد أو إقليم مؤشّر الديمقراطية الذي لا يمكن اعتماده في إقليم آخر. في الحالتين، ثمة مماحكة مانعة للتفكير المليّ والمتأني في سمتي التوسع الديمقراطي على الصعيد العالمي. من ناحية، المفهوم بات أكثر كونية بكثير مما كانت عليه الحال قبل نصف قرن من الزمان، ومن ناحية ثانية هذه الكونية المتنامية توجد في الوقت عينه التربة لازدهار نقائضها الميالة عموماً حيثما أوتي لها ذلك الى اختزال الديمقراطية في الانتخابات فقط، أو الى التعريض إما بأساسية تفتح الأفراد وحقوقهم هنا، أو بأساسية الروابط والعلاقات الاجتماعية هناك.
لقد قام «غلاة الحث على الديمقراطية» في المنطقة العربية بفصل إلحاحهم عليها عن أي انهمام بها من حيث هي في نهاية المطاف مفهوم متوتر. وليست بالمفهوم الذي يمكن استسهال الترويج له. ولا حتى الترويج له باستعادة المقولة التشرشلية حول أن الديمقراطية هي أقل النظم سوءاً. وهذه في الواقع مقولة ـ إن عزلناها ونصبناها كمبدأ قائم بذاته ـ لصارت مضللة. لأنها تفترض أنه يمكن أن يكون السعي الى الديمقراطية هو بنتيجة الإحباط فقط من كل ما عداها. وهذا غير صحيح. بل هذا «جوهر» ما أصاب الربيع العربي. فعندما تذهب الى الديمقراطية فقط لأنك محبط من سواها، ستحبطك الديمقراطية أيضاً. لا شيء ممكن بلوغه من دون رغبة ونهم. والنهم الى الديمقراطية لا يمكن انتظاره من تفكير مقتنع أنّها فقط على أنها أهون الشرور.
إلى حد كبير، جاءت النخب الثقافية العربية الى موضوعة الديمقراطية بنتيجة الإحباط من سواها. اليساري العربي اعتنقها كبديل عن الاشتراكية الخائبة. والقومي كبديل عن أحلامه الوحدوية المجهضة. والإسلامي اهتم «بتأصيلها» كبديل عن إحياء ممتنع لنموذج ماضوي متخيل يشتاق إليه. الكل ذهب الى الديمقراطية على اعتبار أنها «التقاعد الآمن». وكل ذلك شطب من الحسبان منطلقات النهم إلى الديمقراطية. جرى الترويج لها على أنها حيث يتوقف النهم. حيث لا رغبة الا تلك الاستهلاكية. سواء استهلاك السلع أو استهلاك النخب السياسية انتخابات في إثر انتخابات.
واليوم، تجد النخب التي انتقلت من الاشتراكية هي الحل والوحدة العربية هي الحل والإسلام هو الحل الى بدعة «الديمقراطية هي الحل» نفسها وقد عادت وطلقت الديمقراطية كمفهوم، بشكل أو بآخر، وفضّلت عليه «الاستقرار» و«رضا الناس» و«الاستقرار» و«التماسك الاجتماعي». ويتقاطع ذلك مع ميل يفصح عن نفسه بطرائق شتى للقول إنه، من الصين إلى روسيا وآسيا الوسطى الى الشرق الأوسط، يجري العمل لإرساء قارة متعافية تدريجيا من الهيمنة الغربية وليست في حاجة الى موضوعات الديمقراطية سواء بسواء. ما يرادف القول إن الاستبداد الآسيوي، الاستبداد الشرقي الراكز البنى والهياكل، استطاع تحديث نفسه بمحاكاة حداثة الغرب ولفظها في آن، وأن الديمقراطية صنو الإمبريالية، بضاعة حريّ ردّها الى الغرب، بل أن الغرب نفسه ما عاد يدري أين يصرفها. هكذا تفكير، وللكلام صلة وتكملة، هو أكثر كارثية بما لا يقاس من كل الجدب والتسطيح في أدبيات «الغلو في الديمقراطية» التي صلينا بها لعقود في هذه المنطقة، سواء من الدول الغربية ومساعيها في زرع الديمقراطية كأداة استتباع بدلا من ارتباطها بحق الشعوب في تقرير المصير والسيادة على مواردها وايجاد التفاعل الأفضل بين مكوناتها، أو من معتنقي بدعة «الديمقراطية هي الحل» – ما كان يفترض عندهم أنها الحل لكل شيء. وهذا تعسف بحق الفكرة الديمقراطية. فالديمقراطية هي الابنة السياسية لفكرة التناقض. هي سبيل لعيش التناقضات معاً، والحيلولة قدر المستطاع في تحولها الى تناقضات تناحرية، وعدم الانحباس في تناقضات بعينها، وانما التطور دائما باتجاه التصدي لتناقضات جديدة.