-
℃ 11 تركيا
-
12 مارس 2025
د. أميرة فؤاد النحال تكتب:الهندسة القسرية للمجاعة: تداعيات وقف المساعدات على غزة كأداة للابتزاز السياسي
د. أميرة فؤاد النحال تكتب:الهندسة القسرية للمجاعة: تداعيات وقف المساعدات على غزة كأداة للابتزاز السياسي
-
11 مارس 2025, 9:04:52 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في ظل العدوان المستمر على غزة، لم يقتصر الاحتلال الصهيوني على العمليات العسكرية المباشرة، من إطلاق نار على المدنيين أو من خلال استهدافهم من مُسيّرات الكواد كابتر، بل تبنّى سياسات ممنهجة تهدف إلى فرض واقع جديد يخدم أجندته السياسية، مستخدماً المساعدات الإنسانية كسلاح في معركته ضد أهل قطاع غزة، فقد كشف مسؤولون صهاينة صراحةً عن نواياهم في عرقلة جهود التهدئة، ورفض أي اتفاق لوقف إطلاق النار لا يحقق أهدافهم الاستراتيجية.
تصريحات مثل تلك التي أدلى بها رئيس الوزراء الصهيوني "بنيامين نتنياهو"، عندما أكد أن "إسرائيل": “ستستأنف القتال بعد أي اتفاق تهدئة”، تعكس بوضوح أن الحصار المفروض على غزة ليس مجرد أداة ضغط، بل هو جزء من “هندسة قسرية للمجاعة”، تهدف إلى خنق القطاع اقتصادياً وإنسانياً، وإجبار المقاومة الفلسطينية والمجتمع الدولي على الرضوخ لشروط الاحتلال.
إن وقف المساعدات الإنسانية، وعرقلة إيصال الغذاء والدواء، ليس مجرد إجراء عقابي، بل استراتيجية سياسية مدروسة تسعى إلى تحويل المعاناة إلى ورقة تفاوضية، في خرق صارخ للقوانين الدولية، فهل أصبح التجويع أداة تفاوض جديدة في الصراع؟ وإلى أي مدى يمكن أن يستمر الاحتلال في استخدام المجاعة كوسيلة للابتزاز السياسي؟
على مدار التاريخ، لم يكن التجويع مجرد نتيجة عرضية للحروب والصراعات، بل كان في كثير من الأحيان أداة استراتيجية تُستخدم لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية، هذا النهج الذي يمكن تسميته بـ“الهندسة القسرية للمجاعة”، يعتمد على خلق ظروف مُخطط لها بعناية تؤدي إلى نقص الغذاء والموارد الأساسية، بهدف إخضاع الشعوب، وإجبار الأطراف المتصارعة على تقديم تنازلات، أو إعادة تشكيل المشهد السياسي بما يخدم مصالح القوى المهيمنة.
وفي سياقات النزاعات، تُستخدم المجاعة كسلاح صامت لكنه مدمّر، حيث يتم فرض قيود صارمة على الإمدادات الغذائية والطبية، أو استهداف البنية التحتية الحيوية لمنع وصول المساعدات الإنسانية، ما يؤدي إلى انهيار المجتمعات المستهدفة من الداخل، هذه الممارسات تتجاوز مجرد العقوبات الاقتصادية أو الحصار العسكري، لتصبح آلية ممنهجة لإعادة تشكيل الواقع السياسي وفقاً لرؤية الطرف الأقوى.
في الحالة الفلسطينية، يُعد وقف المساعدات إلى غزة جزءً من هذه السياسة الممنهجة، حيث يستخدم الاحتلال الصهيوني الحصار والتجويع ليس فقط كعقاب جماعي، ولكن أيضاً كأداة لفرض إملاءاته السياسية، فمنع دخول المواد الغذائية والطبية، أو تقنينها بما لا يكفي الحد الأدنى من احتياجات السكان، يُظهر أن هذه السياسات ليست إجراءات أمنية كما يدّعي الاحتلال، بل هي أداة ابتزاز سياسي تُستخدم للضغط على المقاومة وإجبارها على تقديم تنازلات.
لم تكن غزة الحالة الوحيدة التي شهدت استخدام التجويع كأداة سياسية، فقد شهد التاريخ العديد من الأمثلة التي تؤكد أن القوى الكبرى لطالما استغلت سلاح المجاعة لخدمة مصالحها، وعلى سبيل العد لا الحصر، حصار لينينغراد (1941-1944) وذلك خلال الحرب العالمية الثانية، حيث فرضت القوات النازية حصاراً خانقاً على مدينة لينينغراد السوفيتية، مما أدى إلى وفاة مئات الآلاف من المدنيين بسبب الجوع والبرد، في محاولة لإجبار الاتحاد السوفيتي على الاستسلام، ومثال آخر: المجاعة الكبرى في بنغلاديش (1974) حيث أدت السياسات الاقتصادية البريطانية في الهند، ولاحقًا التجاهل الحكومي في باكستان، إلى مجاعة مدمرة راح ضحيتها مئات الآلاف، حيث استخدم التجويع كوسيلة لإحكام السيطرة الاستعمارية والضغط السياسي، وأيضاً حصار اليمن في الحرب الأهلية (2015 - الآن) حيث فرض التحالف العسكري بقيادة السعودية حصاراً بحرياً وجوياً على اليمن، مما أدى إلى أسوأ أزمة إنسانية في العالم، وفق تقارير الأمم المتحدة، وقد كان الهدف من هذا الحصار إضعاف جماعة الحوثيين عسكرياً، لكنه أدى إلى تفشي الجوع والمرض بين ملايين اليمنيين.
اليوم، تعتبر سياسات التجويع المتعمد جريمة حرب بموجب القانون الدولي، حيث تحظر اتفاقيات جنيف استخدام المجاعة كوسيلة حرب، وتُلزم الدول بضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المنكوبة، ومع ذلك، فإن إفلات القوى الكبرى من العقاب، والتواطؤ الدولي، يسمح باستمرار هذه الممارسات كما يحدث في غزة، حيث يُترك المدنيون تحت رحمة الحصار والحرمان الممنهج، إذن، لم يعد التجويع مجرد أداة انتقامية، بل تحول إلى سلاح استراتيجي يُستخدم لتغيير معادلات القوة في الصراعات الدولية، وهو ما يجعل من “الهندسة القسرية للمجاعة” إحدى أخطر الأدوات السياسية في العصر الحديث.
وبدلاً من التعامل مع المساعدات كحق أساسي يضمن الحد الأدنى من مقومات الحياة للمدنيين، باتت الاحتلال يُوظَّفه كوسيلة ابتزاز سياسي تُستخدم لتركيع الفلسطينيين ودفعهم نحو القبول بإملاءاته، ولطالما تعاملت "إسرائيل" مع إدخال المساعدات إلى غزة وفق معايير انتقائية، حيث تتحكم بشكل كامل في تدفق الغذاء والدواء والوقود، فتسمح به حيناً وتمنعه حيناً آخر، وفقاً لمصالحها السياسية والعسكرية، ففي أوقات التصعيد، تستخدم وقف المساعدات كأداة لعقاب جماعي يفاقم الأزمة الإنسانية، ما يجعل المدنيين في مواجهة كارثة اقتصادية وصحية، هذه السياسة لا تستهدف فقط الضغط على المقاومة، بل تهدف أيضاً إلى دفع المجتمع الدولي لاستخدام نفوذه لإجبار أهل غزة على تقديم تنازلات سياسية، كشرط لاستئناف تدفق المساعدات، ليس هذا فحسب، بل إنّ وقف المساعدات الآن جاء في وقت تم الاتفاق على وقف إطلاق النار في شهر يناير الماضي، والمُفترض أن يتم مع بداية شهر مارس الانتقال للمرحلة الثانية حسب الاتفاق، أي أنّ هذا الابتزاز السياسي يأتي في وقت لا يوجد به تصعيد عسكري، وهذا ما يُدلل على نذالة هذا المحتل، الذي لا يُراعي اتفاقيات ولا مُعاهدات.
فكلما اقتربت المفاوضات من تحقيق هدنة، يلجأ الاحتلال إلى تصعيد الحصار، ليُظهر أن العودة إلى الحياة الطبيعية مشروطة بقبول شروطه، هذا ما حدث في المفاوضات الأخيرة، حيث عمدت إسرائيل إلى تأخير إدخال المساعدات، في محاولة لإجبار المقاومة على تقديم تنازلات أمنية وسياسية، هذه الممارسات تكشف أن وقف المساعدات ليس مجرد إجراء إداري، بل سياسة ممنهجة تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي في غزة عبر التجويع والإفقار، ما يجعل الحصار المفروض على القطاع ليس مجرد سلاح عسكري، بل أداة لفرض إرادة الاحتلال على أهل غزة والمجتمع الدولي.
في غزة، لم يعد الحصار مجرد تقييد للحركة أو تحكم في المعابر، بل تحوّل إلى معركة بقاء يومية يخوضها المدنيون في ظل انهيار شامل للبنية التحتية الأساسية، مع توقف تدفق المساعدات وفرض قيود صارمة على دخول الغذاء والدواء، تتفاقم الأزمة الإنسانية بوتيرة غير مسبوقة، حيث باتت الحياة في القطاع أقرب إلى كارثة إنسانية ممنهجة يسعى الاحتلال إلى ترسيخها كواقع دائم، واليوم، يواجه سكان غزة نقصاً حاداً في الغذاء بعد استهداف الاحتلال للمساعدات الإنسانية ومنع دخول الشاحنات المحملة بالمواد الأساسية، المخابز توقفت عن العمل، الأسواق أصبحت شبه خاوية، والأسعار ارتفعت بشكل جنوني، ما جعل تأمين لقمة العيش تحدياً يومياً للملايين، أما الدواء، فقد بات رفاهية نادرة، مع انهيار المستشفيات نتيجة انقطاع الكهرباء ونفاد الوقود، مما جعل علاج الجرحى والمرضى أشبه بمعجزة.
لم يكتفِ الاحتلال بمنع المساعدات، بل تعمّد تدمير ما تبقى من البنية التحتية، حيث أقدم وزير جيش الاحتلال على قطع الكهرباء عن محطة المياه المركزية في دير البلح، مما زاد من أزمة العطش والتلوث في القطاع، ومع تدمير أكثر من 90% من شبكة الكهرباء، أصبح تشغيل محطات تحلية المياه شبه مستحيل، ما يهدد حياة المدنيين، خاصة في ظل منع إدخال الوقود اللازم لتشغيلها، هذه السياسات ليست مجرد نتائج حرب، بل استراتيجية ممنهجة للتجويع والتعطيش تهدف إلى إبادة الحياة في غزة عبر خنقها من كل الاتجاهات، وفي قلب هذه الكارثة، يدفع الأطفال والمرضى وكبار السن الثمن الأكبر، فالمستشفيات التي كانت تعج بالمرضى، باتت الآن عاجزة عن تقديم الحد الأدنى من الرعاية الصحية، مع نفاد الأدوية الحيوية وتوقف الأجهزة الطبية بسبب انقطاع الكهرباء، والأطفال الذين يحتاجون إلى حليب ومغذيات خاصة يواجهون خطر سوء التغذية الحاد، بينما المرضى الذين يحتاجون إلى غسيل الكلى أو العلاج الكيميائي يُتركون لمصيرهم المجهول، أيضاً كبار السن الذين يعانون من أمراض مزمنة أصبحوا بلا دواء، فيما تقف العائلات عاجزة عن تأمين أساسيات الحياة في ظل انهيار شامل لكل مقومات البقاء.
ما يحدث في غزة ليس مجرد أزمة إنسانية، بل جريمة متعمدة تهدف إلى تركيع السكان عبر التجويع والتعطيش، الاحتلال يستخدم وقف المساعدات وتدمير البنية التحتية كأداة للضغط السياسي، في محاولة لدفع الفلسطينيين نحو الاستسلام تحت وطأة الجوع والعطش، الصمت الدولي على هذه الجرائم هو مشاركة ضمنية فيها، ما يستدعي تحركاً عاجلاً لكسر الحصار وإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، ومع استمرار الحصار وتصاعد سياسة “الهندسة القسرية للمجاعة”، يبقى السؤال الأهم: هل سينجح الاحتلال في تحقيق أهدافه؟ وهل ستتمكن المقاومة الفلسطينية من كسر هذه المعادلة القاتلة؟
يعتقد الاحتلال أن تجويع غزة سيؤدي إلى استسلامها سياسيًا وعسكريًا، وأن فرض واقع جديد من المعاناة اليومية سيدفع الفلسطينيين إلى التخلي عن المقاومة والقبول بإملاءاته. لكن التجارب السابقة تثبت أن هذه السياسة لم تحقق أهدافها، بل أنتجت نتائج عكسية، ففي كل مرة حاول الاحتلال استخدام التجويع والتضييق لإضعاف الفلسطينيين، كان الرد هو مزيد من الصمود والمقاومة.
ما يغفله الاحتلال أن المجاعة ليست مجرد وسيلة ضغط، بل عامل تفجير اجتماعي وسياسي، إذ تؤدي إلى تعزيز حالة الغضب الشعبي، وتوسيع دائرة الرفض للممارسات الصهيونية، مما قد يدفع بالأوضاع نحو تصعيد غير محسوب، كذلك، فإن استمرار الحصار بهذه الطريقة يجعل الاحتلال في مرمى الإدانات الدولية، ويزيد من الضغوط على حلفائه، خاصة مع تنامي الأصوات الحقوقية التي تعتبر التجويع جريمة حرب مكتملة الأركان، وأمام هذا الواقع، تدرك المقاومة الفلسطينية أن المواجهة لا تقتصر على الجانب العسكري فقط، بل تشمل كسر الحصار وإفشال سياسة الاحتلال في استخدام المساعدات كورقة ابتزاز.
ما يحدث في غزة ليس مجرد حصار اقتصادي، بل معركة وجود تهدف إلى إعادة رسم ملامح الحياة في القطاع وفق إرادة الاحتلال، لكن كما فشلت سياسات التجويع والتهجير في الماضي، فإن إرادة الفلسطينيين في الصمود ستظل العامل الحاسم في إفشال هذه المخططات، ويبقى الحصار اختباراً لإرادة الشعوب والضمير العالمي، فإما أن يستمر العالم في الصمت والتواطؤ، مما يمنح الاحتلال ضوءً أخضر لمواصلة جرائمه، أو أن يتحول الغضب المتزايد إلى تحرك دولي حقيقي قادر على كسر هذه المنظومة الظالمة، في النهاية، أثبت التاريخ أن غزة قد تنزف، لكنها لا تنكسر، وأن التجويع قد يرهق أهلها، لكنه لن يسلبهم إرادتهم.









.jpg)
