إسماعيل جمعة الريماوي يكتب: أما آن لغزة أن تستريح

profile
  • clock 17 يناير 2025, 2:33:03 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
الكاريكاتير للفنان الفلسطيني محمود عباس

لقد أصابنا في غزة من التعب ما يكفينا ومن الضيق ما يؤذينا، وما رأينا ثقلا على قلوبنا مثل هذه الأيام وليشهد الله أنها أثقل وأصعب أيام العمر، وليشهد الله أنها أيام تكسر القلب والخاطر هكذا يقول ويلخص أهل غزة هذه الحرب و ما واجهوا من قتل و دمار و نزوح .

فبعد أكثر من 467 يومًا من القتل والدمار، نجحت غزة بإرادتها الصلبة في إيقاف عداد الموت الذي حاول الاحتلال أن يجعله قدرًا دائمًا لشعبها. بإصرارها وصمود أهلها وعزيمة مقاوميها، وقفت غزة في وجه كل قوى الطغيان وآلة القتل الصهيونية التي طمحت لاقتلاعها وتهجير شعبها.

خاضت غزة ملحمة بطولية ستُخلَّد في سجلات التاريخ، لتُضاف إلى قصص النضال الإنساني في وجه جبروت الظلم والطغيان. قدَّمت غزة درسًا للعالم أجمع عن انتصار الحق على الباطل، الإرادة على القوة، والتضحية على آلة الدمار. أصبحت غزة أيقونة حية أمام العالم، تثبت أنه في إمكان الصمود قهر أعتى الحروب وأكثرها قسوة.

واليوم، تدحر غزة محتليها، وتتطلع عيون أبنائها إلى إعادة بناء مستقبلهم، الذي حاول الاحتلال أن يُطفئه بتحويل القطاع إلى بيئة غير قابلة للحياة، وترك آلاف الشهداء تحت الأنقاض. على الرغم من المآسي الإنسانية الكبيرة التي خلَّفتها الحرب، فإن أمل غزة وأهلها لم ينطفئ. سيعود النازحون إلى مناطقهم التي هُجِّروا منها، وستُعاد الحياة إلى كل زاوية، لبناء أسطورة جديدة تُكمل ملحمة الصمود بأسطورة النهوض من جديد .

من كان يصدق أننا سننحني أمام حماس هكذا علق الإعلام الاسرائيلي و كبار محلليه على صفقة غزة بعد أن انزعت المقاومة الفلسطينية اتفاق يتوافق مع شروطها، والتي أصبحت عنوانًا للإجماع الشعبي الفلسطيني. وأجبرت الاحتلال على القبول بالانسحاب الكامل من قطاع غزة، وتفكيك كل مواقعه، مع ضمان عودة النازحين إلى أماكن سكنهم دون شروط، وصفقة تبادل أسرى مشرفة. بهذا، أغلقت غزة فصلًا من أكثر فصول الشعب الفلسطيني ألمًا في مواجهة حرب الإبادة، لتبدأ مرحلة جديدة من البناء واستعادة الحياة.

انتزعت غزةُ حياتها من مَخالب نازيِّي العصر الحديث، وأوقفت كل عقارب الساعة، لتصبح عنوان الزمن وزمن البطولة والمواجهة. كانت غزة التحدي في وجه الظلم والقهر العالميين، وواجهت الإبادة والقتل والتهجير، ليس فقط في وجه “إسرائيل”، بل في وجه كل المنظومة الغربية المنحازة، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي شاركت في الإبادة.

على الرغم من كل ما أصابها من قتل ودمار، ومن فقدان خيرة قادتها وأبطالها وأطفالها ونسائها وشيوخها، أسمعت غزةُ اسمَ فلسطين لكل العالم. لم تنحنِ غزة يومًا، لم تستسلم، ولم تقبَل الهوان أو الاحتلال. قاوم أبطالها كل قوى العدوان بصدورهم العارية وبلحم ودم ابناءها ، وبعزيمتهم التي لا تلين.

تحدَّت غزةُ كل قوانين الطبيعة وموازين القوة، وراهنت على شعبها وأبطالها. كانت ندًّا يُكتَب في الروايات، وأعادت كتابة التاريخ بصفحة من العز والصمود والبطولة.

على مدار سنة وأربعة أشهر، كانت غزة الصغيرة بمساحتها الكبيرة بشعبها أن تعطي تجربة النكبة الفلسطينية المستمرة منذ عام 1948. قالت بوضوح إن هذا الشعب يمتلك إمكانيات المواجهة ولن يقبل التهجير أو الاحتلال أو سلب أراضيه. لن يذهب الفلسطيني إلى رحلة لجوء جديدة، بل سيواجه ويصمد حتى ينتزع حقه.
حملت غزةُ حلمَ هذا الشعب العظيم بالتحرير و أسقطت الحدودَ، لتؤكد أن المستحيل يصبح ممكنًا حين تتوفر الإرادة والعزيمة.

قاتلت غزة لأكثر من 467 يومًا لتقول إن ما جرى لن يكون أثرًا عابرًا، بل واقعًا جديدًا وحلمًا يتحقق. على الاحتلال والعالم أن يتقبلوا حقيقة أن فكرة التحرير ستكون عنوان المرحلة القادمة.

واجهت غزةُ أعتى الحملات الإجرامية، ومزقت أسطورةَ الجيش الذي لا يُقهر، إذ لم يعرف مقاتلوها التراجع أو الاستسلام أو الانهيار.

في هذه المعركة، اختلطت الدماء بالدماء، وتلاشت الفوارق ، ليصبح الجميع جزءًا من ملحمة سيخلدها التاريخ، ليس فقط في ذاكرة الشعب الفلسطيني، بل في تاريخ الشعوب الحرة في العالم أجمع.

أما آن لغزة الآن أن تستريح، وأن تضمد جراحها العميقة، وأن تلملم أشلاء أبنائها، وتدفن شهداءها، وتعالج جراحاها التي أثخنتها الحرب. آن لأهاليها أن يتفقدوا بيوت أحبائهم الذين ارتقوا، وأن يعود النازحون إلى بيوتهم التي هُجِّروا منها قسرًا. آن لهذا الشعب العظيم أن يتنفس الصعداء بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وتوقف ضجيج المدافع وهدير الطائرات، وانتهى مشهد الموت والدمار الذي كان يوميًّا.

لقد مسَّت الحربُ كل بيت في قطاع غزة، فلم تسلَم عائلة من نارها، ولم ينجُ قلب من ألم الفقد والفجع. الجرح الذي خلفته الحرب أكبر من أن يُوصَف، لكن ما يوازي هذا الجرح حجم العزة والإباء والصمود الذي جسده أهل غزة، وهو أيضًا أكبر من أن يختزله الكلام.

آن لغزة أن تبدأ حربَها القادمة، حربَ النهوض من تحت الركام، لتعيد الحياةَ إلى كل زاوية وكل شارع وزقاق. تستحق غزة أن يُمُدَّ لها يدَ العون من كلُّ أحرار العالم، لإعمار منازلها، ومدارسها، وجامعاتها، ومستشفياتها، وأن يُعاد بناء المخيمات التي كانت شاهدة على صمود هذا الشعب وألمه.

لن تنسى غزة من وقَفَ معها في محنتها، من رفع صوته عاليًا في كل الميادين والمنابر، من كان حاضرًا في المواجهة بدمه وتضحياته، من حمل قضيتها ودافع عنها أمام العالم.

ولن تنسى غزة أيضًا من خذلها، ومن تآمَر على قتلها وتهجير شعبها من إخوة الوطن ومن أشقاء العروبة ومن دعم الاحتلال وكان شريكًا في إبادتها. لن تنسى غزة مَن ساهم في تصفية قضيتها ودعم آلة العدوان بالمال والسلاح والغطاء السياسي. لن تغفر غزة لهؤلاء، وستبقى ذاكرتها حاضرة، تحفظ أسماءهم وجرائمهم للأجيال القادمة.

‏وأقول لمن قللوا من هذه الصفقة ولمتصهْيني العرب:

إن هذه لم تكن حربا بين دولتين أو جيشين حتى تُحسَب نتائجها بأعداد "الجثث"، وفق التعبير العسكري.

هذه معركة بين شعب مصمّم على تحرير أرضه، وبين قوّة محتلّة تفوق قوّته بعشرات المرات، وحين يخرج منها مرفوع الرأس وبهذا العنفوان بعد أكثر من 15 شهرا.

هناك من يعرفون تجارب الشعوب التي دفعت أثمانا أكبر بكثير لأجل التحرير، لكنهم يتجاهلون، لأن "القبلية الحزبية" تعطب الضمير، وهناك حمقى ومتصهّينون لا يعرفون شيئا من ذلك، لأن العبودية هي خيارهم التاريخي.

فلا تناقشوا المنبطحين والمتصهْينين، ولا تصدّقوا تباكيهم على الضحايا، فهم أكذب الكاذبين.. فقط أشعِروهم بالازدراء، لأن وجوها تبرّر التعاون مع عدوّها، أو تستمرئ العبودية لأيّ سيِّد، لا تستحق غير ذلك.

فلسطين اليوم باتت سيّدة العالم.. ببسالة أبطالها ودماء شهدائها وصمود شعبها.. ومن يتابع مراثي الغُزاة بعد اتفاق الأمس، سيدرك ذلك بكل وضوح.

تقف غزة اليوم كالعنقاء، تنهض من تحت الركام لتعلن للعالم أن الإرادة أقوى من المدافع والطائرات، وأن الدماء والتضحيات التي جبلت بها الأرض لن تهزمها أي قوة في هذا العالم.

نكتب هذه اللحظة والقلب يعتصر ألمًا على أكثر من 60 ألف شهيد ومفقود، وعلى أكثر من 10 آلاف مجزرة ارتكبها الاحتلال، وعلى أكثر من مليونَي نازح، و18 ألف طفل أُزهقت أرواحهم قبل أن يروا الحياة. نكتبها ونتذكر أن 1,600 عائلة أبيدت بالكامل، ومُسِحت من السجل المدني، وعشرات آلاف الجرحى يئنون دون مستشفيات، وآلاف الأسرى والمفقودين مجهولي المصير.

على الرغم من هذا النزف، تُصر غزة على الحياة، تملؤها العزة والكرامة والإباء، وتُعلِّم العالَمَ درسًا خالدًا: إن الإرادة التي صُنعت بالتضحيات والدماء لن تُهزَم أبدًا. ليست غزة مجرد مكان، إنها فكرة تتجسد، وصوت يعلو، ورمز للأمل الذي لا ينكسر.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)