الدكتور لبيب جار الله يكتب أول سفير عثماني إلى فرنسا

profile
د. لبيب جار الله المختار كاتب ومحلل سياسي
  • clock 9 فبراير 2024, 6:07:04 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

نذر الخوف من الزوال بانت في الافق بعد الهزائم التي تعرضت لها الدولة العثمانية قبل وبعد حصار فيينا عام 1683م ، ودق ناقوس الخطر في ربوع الدولة العثمانية معلناً عن بدء مرحلة جديدة وهي اكتشاف اسباب الهزائم المتتالية وكذلك اسباب انتصارات اوربا .

سعى السلطان احمد (1673-1736)الى البحث عن اسباب هذه الهزائم خصوصاً إذا ما علمنا ان هذا السلطان كانت له رغبة عارمة في الاصلاحات وتغيير السلوكية التي كانت عليها طبيعة النظرة الى الغرب من قبل السلاطين الذين سبقوه ، فأرتى الى ارسال احد المقربين من البلاط إلى أوربا وبالتحديد الى فرنسا الاكثر قربا من ناحية التعامل التجاري والسياسي من بقية الدول الاوربية الى الدولة العثمانية .

من هو ( يرميسكيز) 

تم ارسال محمد جلبي افندي الذي ولد عام ( 1670-1732 ) في مدينة ادرنة من اسرة جورجية الاصل ، كان والده سليمان اغا احد الضباط البارزين في الانكشارية ، وبعد وفاة والده في احدى الحملات التي قام بها الجيش العثماني (بيكس) لذلك اختار محمد جلبي افندي سلك والده ودخل الجيش الانكشاري ، وبعد دخوله اظهر محمد جلبي براعته واخلاصه مضيفاً اليها شجاعة كبيرة ، فترقى بالمناصب العسكرية في فيلق الانكشارية الذي يخدم تحت لوائه والذي كان يحمل الرقم 28 والذي يعني بالتركية (يرميسكيز) والذي بات لقباً صاحب محمد جلبي وتوارثه ابنائه من بعده (محمد جلبي افندي يرميسكيز) ، حتى أن ابنه سعيد والذي وصل الى الصدارة العظمى وكان يلقب (يرميسكيزاد) والتي تعني ابن الــ 28.

استمر محمد جلبي بتحقيق النجاحات على المستوى الشخصي واظهر العديد من القدرات في مجالات متعددة مما حمل السلطان احمد الذي اعجب بإمكانياته الى تعيينه في خدمة مالية الدولة العثمانية وإعطائه منصب كبير محاسبي الامبراطورية (دفتر دار) ،وبعد ذلك تم اختياره ليكون الشخص الذي سينظر في سبب هزائم الدولة العثمانية عن طريق السفارة وكذلك معرفة اسباب انتصارات اوربا عن طريق اعتماده في سفارة الى باريس وبذلك يكون اول سفير للدولة العثمانية بهذا المجال .

لم يكن للدولة العثمانية في ذلك الوقت اي سفارة ثابته في عواصم الدول الاوربية بينما كان للدول الاوربية سفارات ثابته وسفراء دائمون في اسطنبول .

الاستعداد وتهيئة السفارة 

في عام 1718م بدأت تحضيرات ارسال السفارة الى فرنسا بين الصدر الاعظم ابراهيم باشا المتحمس لفكرة الاطلاع على اسباب تطور الاوربيين داعماً لرأي السلطان احمد في ذلك مع السفير الفرنسي في اسطنبول الذي اطلع حكومته في باريس على هذا الامر ، واستمرت تحضيرات السفارة لفترة من الزمن ،اذ قام السفير الفرنسي بتهيئة سفينة فرنسية لنقل السفير العثماني والوفد المرافق له الى فرنسا .

ومن الاعراف الدبلوماسية كان لابد من تهيئة الهدايا والخلع الفاخرة لملوك وامراء البلد المستضيف للسفارة ، لذلك تم تحظير الهدايا للملك لويس الخامس ملك فرنسا ورجالات دولته والتي كانت تحوي على خيل صغير مناسب لعمر الملك لويس ذو الاثنتي عشر عام ، وكذلك الخناجر والسيوف والحقائب المليئة وعدد من الخيول النادرة ،  وبعد الانتهاء من التحضيرات انطلقت الرحلة عام 1721م عن طريق البحر من ميناء ازمير مستغرقة (55)يوم لتصل الى ميناء طولون في فرنسا .

رحلة السفير في البر الفرنسي

بعد الوصول الى الميناء بدأت المرحلة الثانية من الرحلة وهي البر والتي صادف فيها فصل الشتاء ووعورة الطرق فيه ولذلك استغرق السفير محمد جلبي افندي والوفد المرافق له والبالغ عددهم (50) عدة شهور للوصول الى باريس ، ليكون اجمالي المدة التي استغرقتها السفارة من ازمير الى باريس حوالي (خمسة اشهر). تسنى للسفير أثناء رحلته الفرنسية من ميناء مرسيليا عبر الأراضي الفرنسية براً من باريس الاستمتاع بمعاينة المدن التي يعلن إعجابه بها، خصوصاً تولوز وبوردو وأروليان ، واستغرقت زيارة القصور الملكية والصروح العلمية والمتاحف الجزء الأكبر من مدة إقامة السفير في باريس، كما أنها شغلت الحيز الأوسع في تقريره. وكان كل قصر يزوره يعتبره تحفة لا نظير لها حتى زيارته قصر فرساي الذي رأى أنه أجمل من كل القصور التي شاهدها ، وقد دهش خلال زيارته الأوبرا التي أثارت إعجابه قاعاتها. ويذكر أن كل ما شاهده من قصور ومتاحف ومسارح واستعراضات ورحلات صيد كأنه يرى أشياء لم يعهدها من قبل.                 

وكعادة اهل باريس في استقبال الضيوف من الدول الاخرى فقد اصطفوا للمشاهدة والترحيب بالسفير العثماني (خصوصا اذ ما علمنا انه اول سفير عثماني يصل الى باريس ) ، الذي وصل موكبه متوجها لمقابلة الملك في مقر اقامته الذي كان بدوره  متحمسا الى استقبال الزائر الجديد ليطلع على هيئة اول عثماني يراه في حياته ومن حضارة اخرى والتي سمع عنها الكثير ولم يشاهد من يمثلها قط . 

العودة وتسجيل المشاهدات

يعتبر كتاب سفارتنامة أول نص يكتبه عثماني عن رحلته إلى باريس في مهمة رسمية ، حيث سلّم خلالها رسائل السلطان العثماني و الصدر الأعظم إلى ملك فرنسا وكبار رجال الدولة. كتب السفير محمد جلبي، والمعروف أيضاً بلقبه تقريره فور عودته من رحلته التي استغرقت نحو عام واحد، وكان لهذا التقرير أثره البالغ في الطبقة الحاكمة التي شرعت في بناء القصور والدور على نمط العمران الفرنسي، حيث تندرج سفارة محمد جلبي أفندي في إطار الانفتاح على دول أوروبا، كما عبّر عنه الوزير إبراهيم باشا داماد بعد أن تسلّم منصبه عام 1718، واستمر فيه حتى نهاية عهد السلطان أحمد الثالث (1703 - 1730).


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)