- ℃ 11 تركيا
- 26 ديسمبر 2024
بيسان عدوان تكتب:مخيم جنين وفيشي الجديدة على أرض فلسطين
بيسان عدوان تكتب:مخيم جنين وفيشي الجديدة على أرض فلسطين
- 25 ديسمبر 2024, 3:16:37 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
منذ أن وُلدت الشعوب وواجهت الاستعمار، كان الغزاة دائمًا يبحثون عن أدواتهم المحلية، كي تصبح سوطًا يضرب به الشعوب ذاتها. تمامًا كما استحدث الاحتلال النازي حكومة "فيشي" لتقوم بقمع الفرنسيين بالوكالة، يقدم الاحتلال الإسرائيلي اليوم نموذجًا مشابهًا عبر السلطة الفلسطينية. جنين، بمخيمها ومدينتها، ليست سوى الميدان الأكثر وضوحًا لهذا التناقض الفاضح، حيث ترتطم شرعية المقاومة الشعبية بحائط التنسيق الأمني المميت. والسؤال الذي يطارد الجميع: إلى متى يمكن لهذه "الفيشي الجديدة" أن تصمد أمام بركان المقاومة؟
في قلب الضفة الغربية، تشتعل جنين كرمز للمقاومة، وسط تناقضات سياسية وأمنية متفاقمة تكشف عن أدوار متشابكة بين الاحتلال الإسرائيلي وسلطة أوسلو التي لا تخجل من قمع المخيمات الثائرة تحت ذرائع "فرض النظام". مشاهد القصف بالأرباجية والأسلحة الثقيلة في مخيم جنين ليست مجرد حدث أمني؛ بل هي جزء من مشهد أوسع يضع السلطة الفلسطينية في دائرة المقارنة مع سلطة فيشي في فرنسا إبان الاحتلال النازي. تلك الحكومة العميلة التي كانت أداة للقمع الداخلي نيابة عن المحتل. في سياقٍ كهذا، يصبح تسليط الضوء على جنين وما تمثله من مقاومة، وعلى السلطة وما تمثله من هيمنة، ضرورة لفهم المشهد الفلسطيني الراهن في صدام تتفجر فيه أسئلة الشرعية والمقاومة.
جنين: بين جغرافيا المقاومة ومسرح القمع المزدوج
جنين ليست مجرد رمز للمقاومة الفلسطينية، بل هي مختبر حي يعكس تطورات الصراع. منذ الانتفاضة الثانية وعملية "السور الواقي" وصولًا إلى "طوفان الأقصى"، قدمت جنين نموذجًا مقاومًا متجددًا يستند إلى وحدة المجتمع واستقلالية القرار الشعبي. في المقابل، لعبت السلطة الفلسطينية دورًا وظيفيًا يذكرنا بممارسات حكومة فيشي، حيث باتت أجهزة الأمن وسيلة لتفكيك البنى المقاومة وإحكام السيطرة نيابة عن الاحتلال.
ظلت جنين منذ ثورة 1936، وصولاً إلى "طوفان الأقصى" في 2023، قلعة المقاومة الفلسطينية، حيث يمثل مخيمها خصوصاً بؤرة نضالية عصية على التدجين. في مواجهة الاحتلال، وفي مواجهة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على حد سواء، تقدم جنين نموذجًا جديدًا من المقاومة المستقلة، بعيدًا عن البيروقراطيات الفصائلية التقليدية.
هذا النموذج يستند إلى دعم شعبي واسع، حيث يعتبر سكان المخيم أن أي قمع المقاومة هو اعتداء على الكرامة الوطنية. ورغم شح الإمكانيات، فإن المقاومة في جنين أظهرت قدرة مدهشة على التطور الميداني، سواء عبر تصنيع العبوات الناسفة محليًا، أو عبر تكتيكات ميدانية أربكت الاحتلال وأدواته.
إلا أن السلطة الفلسطينية، وإصرارها على استهداف المخيمات، تعزز من صراعها مع هذا النموذج المقاوم. عمليات القصف الأخيرة وما رافقها من استهداف للكادر المقاوم في كتيبة جنين، لا يمكن فصلها عن محاولات أوسع لإخماد أي بؤرة تشكل تهديدًا لسيطرة الاحتلال عبر أدواته المحلية.
لم يكن "طوفان الأقصى" لمجرد عملية عسكرية في غزة، بل نقطة تحول أثرت على معادلة المقاومة في كل فلسطين. المقاومة في جنين لم تعد مجرد رد فعل على اقتحامات الاحتلال، بل تحولت إلى مشروع تحرري شامل يستلهم تكتيكات غزة. المواجهات التي تديرها المقاومة اليوم تجاوزت الفعل العفوي إلى تنظيم استراتيجي، ما أجبر الاحتلال على مواجهة واقع جديد: وحدة الساحات.
"طوفان الأقصى" يعيد صياغة معادلة الصراع
فتحت عملية "طوفان الأقصى" صفحة جديدة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، حيث قدمت غزة درسًا استراتيجياً في مواجهة الاحتلال يعتمد على التكامل بين العسكري والسياسي. هذا الدرس لم يتوقف عند حدود القطاع، بل وجد طريقه إلى الضفة الغربية، وخاصة جنين. الانتقال ليس في التكتيك فقط، بل في روح المقاومة، التي باتت أكثر تحديًا وتعقيدًا.
التنسيق الأمني الذي لطالما اعتبرته السلطة الفلسطينية وسيلة "لحفظ الاستقرار"، تحول إلى نقطة تصعيد داخلي، خاصة في المخيمات التي ترى فيه خيانة وطنية. في المقابل، المقاومة في جنين استعادت المبادرة عبر تحويل المواجهة إلى شكل من أشكال الانتفاضة الشاملة، حيث لا يقتصر العمل المقاوم على الكفاح المسلح، بل يمتد ليشمل البناء المجتمعي والتعبئة الشعبية.
وحدة الساحات: من غزة إلى جنين تحولات استراتيجية
أرسى"طوفان الأقصى" مفهومًا جديدًا للمقاومة: وحدة الساحات. هذه الوحدة ليست شعارًا، بل حقيقة تُترجم يوميًا في جنين والضفة. الخبرات العسكرية التي نُقلت من غزة إلى جنين عززت قدرات المقاومة على مواجهة الاحتلال، وخلقت حالة من الإرباك داخل المنظومة الإسرائيلية. استخدام العبوات الناسفة والكمائن المنظمة هو امتداد لروح المقاومة الغزية، التي نجحت في تحييد تفوق الاحتلال التكنولوجي عبر بساطة التكتيك وعمقه.
هذا الربط بين غزة والضفة لا يعني مجرد تكتيك عسكري، بل هو إعلان عن وحدة المشروع الوطني في مواجهة مشروع أوسلو، الذي تفكك تمامًا أمام إرادة التحرير. المقاومة هنا ليست مجرد رد فعل على الاحتلال، بل مشروع استراتيجي يعيد صياغة معادلة القوة.
القمع كأداة لإدامة الهيمنة: دروس من فيشي إلى أوسلو
حين نعود إلى تاريخ سلطة فيشي، نجدها نموذجًا واضحًا لسلطة محلية وظيفتها الأساسية قمع المقاومين نيابة عن الاحتلال النازي، مستخدمة خطابًا مكرسًا لشيطنة المقاومة بوصفها "خطراً على أمن الدولة". المشهد ذاته يتكرر اليوم، حيث تعتمد السلطة الفلسطينية على التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي لقمع المقاومة المسلحة في جنين، مستعينة بخطاب مشابه يصف المقاومين بأنهم "خارجون عن القانون".
التحول الذي شهدته السلطة، من مشروع يُفترض أن يقود التحرر الوطني إلى أداة قمعية، لم يكن وليد اللحظة؛ بل هو نتاج مسار طويل بدأ مع اتفاق أوسلو. هذا الاتفاق أسس لبنية أمنية تربط شرعية السلطة بقدرتها على "إدارة" المقاومة، بدلاً من دعمها. والنتيجة؟ سلطة تفقد شرعيتها الشعبية تدريجياً، وتتحول إلى عامل داخلي لإدامة الاحتلال.
كما انهارت حكومة فيشي مع سقوط الاحتلال النازي، تواجه السلطة الفلسطينية أزمة وجودية. شرعية أوسلو، التي استندت على وعود تحقيق الدولة، تآكلت أمام المقاومة الشعبية التي أثبتت أن التحرير لا يتحقق إلا بالمواجهة. التنسيق الأمني، الذي كان يعتبر "ركيزة الاستقرار"، أصبح عبئًا على السلطة، حيث بات يُنظر إليه كأداة لقمع المشروع الوطني.
لم تفقد السلطة فقط ثقة الشارع الفلسطيني، بل أيضًا دورها كشريك في أي مشروع سياسي. عملية "طوفان الأقصى" كشفت هشاشتها أمام المقاومة، وأكدت أن أي مشروع لا ينبع من إرادة الشعب مصيره الفشل.
سلطة فيشي وسلطة أبو مازن: أدوار مشابهة والنتائج نفسها
إن التشابه بين سلطة فيشي والسلطة الفلسطينية لا يتوقف عند الأدوار، بل يمتد إلى المصير. وكما رفض الشعب الفرنسي سلطة فيشي وأسقطها بانتصار المقاومة، يرفض الشعب الفلسطيني أي سلطة تعمل كأداة لإدامة الاحتلال وقمع مقاومته. في المقابل، تبقى جنين والمخيمات الثائرة رموزًا للصمود الفلسطيني، تؤكد أن المشروع الوطني الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا بالتحرر من قيود الاحتلال وأدواته، مهما كانت طبيعتها.
تواجه السلطة ليست فقط أزمة شرعية، بل حالة من التفكك الداخلي، حيث بات واضحًا أن مشروع أوسلو انتهى. ففي مواجهة مشهدٍ تتماهى فيه السلطة الفلسطينية مع دور أمني يخدم الاحتلال، تبقى جنين، ومخيمها ومقاومتها، البوصلة التي توجه الفلسطينيين نحو مشروعهم الوطني الحقيقي.
الشعب الفلسطيني، الذي يواجه الاحتلال بشجاعة وبسالة، يثبت مرة أخرى أن المقاومة ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية في معركة التحرر الحتمية.