- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
د. ياسر عبد العزيز يكتب: قبل أن تتقوّض صناعة الأخبار
د. ياسر عبد العزيز يكتب: قبل أن تتقوّض صناعة الأخبار
- 26 يونيو 2023, 6:13:51 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تواجه صناعة الأخبار العالمية طوفاناً من التحديات التي تنذر بتعويقها وزعزعة ركائز عملها، على رأسها، بطبيعة الحال، ما يتصل بتراجع معدلات الثقة، وشيوع الأخبار المُضللة، وازدهار تقنيات التزييف العميق، فضلاً عن الارتفاع المُطرد في تكاليف الصناعة في الوقت الذي تتآكل فيه عوائدها.
مع ذلك، فإن تلك التحديات كلها تبدو ذات أثر محدود عند مقارنتها بالتحدي الذي تفرضه شركات التكنولوجيا العملاقة، التي تهيمن على مواقع «التواصل الاجتماعي» ومحركات البحث الرئيسية، وتتزايد حصتها في عرض الأخبار، مستفيدة من تغير عميق في آليات التلقي، وهو التغير الذي جعل تلك المنصات في مقدمة خيارات التعرض لمليارات من المستخدمين عبر العالم.
ومع ازدهار أعمال تلك الشركات، وزيادة أعداد المستخدمين لمنصاتها، وارتفاع نسب التعرض للأخبار عبرها، يُعرض ملايين من المستخدمين يومياً عن استهداف المنظمات الإخبارية التي يقوم عملها على جمع الأخبار وتجهيزها وتوزيعها، مفضلين الحصول على وجباتهم الإخبارية من الطريق الأسهل والأرخص... أي منصات «التواصل الاجتماعي».
وعندما ستستمر تلك الحالة وتتكرس، سيتزايد عدد متابعي الأخبار على «السوشيال ميديا»، وستكسب شركات التكنولوجيا العملاقة المزيد من الأرباح، وسيتراجع عمل المنظمات الإعلامية التي تتبع أساليب مهنية، وقواعد توثيق، وتخصص موارد ضخمة لإنتاج الأخبار، وربما يتقلص عددها باطراد، وتتغير ملامح الصناعة وتتقوض ركائزها.
إن صناعة الأخبار حيوية للجمهور، وللمؤسسات، وللدولة الوطنية، وللنظام الدولي، وللديمقراطية، والمساءلة، والمشاركة. وتعزيز الضغوط عليها يطرح مخاطر عميقة، وهو أمر سيحدث بالتدافع الذاتي ومن دون إرادة مُعلنة، لأن نضوب عوائد تلك الصناعة، وتوجهها إلى شركات التكنولوجيا العملاقة، سيحرمان المنظمات الإخبارية من المال اللازم لاستدامة أعمالها.
لأسباب عديدة، أضحت شركات التكنولوجيا العملاقة لاعباً رئيسياً في حياة الشعوب والدول، والأخطر من ذلك أن أثرها امتد ليسهم باقتدار في صياغة العلاقات الدولية. وهو أمر يمكن أن يكون مفهوماً، بل ويمكن أن ينطوي على عناصر إيجابية، لكن الإخفاق في ضبط أنموذج أعمال منصات «التواصل الاجتماعي» التابعة لها، التي تتكاثر كالفطر، وتطرح كل يوم جديداً، ينذر بعواقب وخيمة.
وفي الأسبوع الماضي، برزت محاولة جديدة لتقليم مخالب تلك الشركات العملاقة، عبر تخصيص جزء من أرباحها الناجمة عن تعرض مستخدميها للأخبار المُنتجة بواسطة الصحافة المؤسسية لتلك الصحافة، بما يساعدها على تخطي أزماتها المالية واستدامة الأعمال.
فقد أقر مجلس الشيوخ الكندي قانوناً باسم «الأخبار على الإنترنت»، وهو القانون الذي يفرض على «الشبكات الاجتماعية» تعويض المؤسسات الإخبارية عن المحتوى المنشور من خلالها، بما يؤمن نحو 250 مليون دولار أميركي سنوياً تُدفع للمؤسسات الصحافية الكندية من كعكة الأرباح الضخمة التي تحققها مؤسسات مثل «ميتا» و«غوغل» وغيرهما.
ولكن بسبب طبيعتها الاحتكارية ونزعتها الاستعلائية وشعورها الجارف بالهيمنة على سوق الأخبار، ردت «ميتا» - التي تمتلك «فيسبوك» و«إنستغرام» -، ومعها «غوغل»، على هذا القانون بأنها ستحرم المستخدمين الكنديين من الوصول إلى الأخبار قبل نفاذه المُقدر بعد 6 شهور.
يُذكرنا ذلك بما سبق أن فعله «فيسبوك» مع الحكومة الأسترالية قبل عامين، حين أقرت قانوناً مماثلاً، ما أدى إلى أزمة حلحلتها مفاوضات وتعديلات على القانون.
والشاهد أن تلك المنصات تتبع أنموذج أعمال فريداً، وهو يبدأ بالعمل كنافذة عرض للآخرين، تتسم بالسهولة والسعة والقدرة على التصنيف والنفاذية المطلقة، قبل أن يتسع ويتضخم، فيضحى منصة جامعة، ومع الوقت تتبلور نزعته الاحتكارية، ليذهب إليه المنتجون ومعهم المستهلكون حصراً، فيتحوّل نمط اعتماد رئيسياً لا غنى عنه، وهنا يبدأ في فرض شروطه، وحصد الأرباح المذهلة.
وقبل ست سنوات، انتبهت تسع وكالات أنباء أوروبية كبرى لهذه المخاطر، فتقدمت بطلب إلى الاتحاد الأوروبي لبحث إمكان فرض بدل مالي على شركات «التواصل الاجتماعي» النافذة، يتم دفعه لتلك الوكالات لتعويضها عن استخدام المحتوى الذي تنتجه وتنفق مبالغ كبيرة على جمعه، ليقوم «فيسبوك»، وغيره من المنصات، بعرضه والتربح منه من دون بذل مجهود أو دفع نفقات.
وأعقب ذلك توقيع «غوغل» اتفاقاً مع «اتحاد الصحافة الإخبارية العامة» الفرنسي، الذي يضم صحفاً مرموقة مثل «لوفيغارو» و«ليبراسيون» و«لوموند»، يقضي بدفع مبالغ لها لقاء استخدام المحتوى الخاص بها، وهو اتفاق تفيد تقارير بأنه تكرّر أيضاً مع عدد من الصحف البريطانية.
ستكون الصحافة المؤسسية مُطالبة بمواصلة الضغط على الحكومات والمشرّعين حول العالم، لتحقيق قدر مناسب من العدالة في عالم صناعة الأخبار وتداولها، وهو أمر سيُواجه بممانعة ومماحكة من شركات التكنولوجيا العملاقة، التي أظهرت نزوعاً احتكارياً وصلفاً وعجرفة، وأبلغت رسالتها للعالم، الذي يجب أن يتضامن في التفاوض معها للوصول إلى نمط أعمال أكثر نزاهة.