- ℃ 11 تركيا
- 27 ديسمبر 2024
مصطفى إبراهيم يكتب: معركة المنصورة- رمضان سنة 648 هجرية
مصطفى إبراهيم يكتب: معركة المنصورة- رمضان سنة 648 هجرية
- 25 أبريل 2022, 11:10:05 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
انتصارات رمضان
في شهر رمضان عام 648 هـ،انتصرت قوات المماليك والأيوبيين على الحملة الصليبية السابعة في معركة المنصورة بدلتا مصر ، ودارت رحى المعركة في الفترة مابين اليوم الثامن والحادي عشر من فبرايرشباط من سنة 1250م ،وكانت الحرب بين القوات الصليبية أو الفرنج بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، الذي عُرف بالقديس لويس فيما بعد، والقوات الأيوبية بقيادة الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ. وفارس الدين أقطاي الجمدار وركن الدين بيبرس البندقداري. أسفرت المعركة عن هزيمة الصليبيين هزيمة كبرى منعتهم من إرسال حملة صليبية جديدة إلى مصر و وقوع الملك لويس التاسع أسيرًا في قبضة المسلمين، وكانت بمثابة نقطة البداية التي أخذت بعدها الهزائم تتوالى عليهم حتى تم تحرير كامل الشام من الحكم الصليبي.
وأسباب المعركة تنحصر في طمع فرنسا آنذاك لويس التاسع في غزو مصر عن طريق تجريد حملة صليبية جديدة، لكنها لن تكون باتجاه الشام وبيت المقدس مثل سابقاتها ، ولكن باتجاه مصر هذه المرة لاحتلالها وحرمان الصالح أيوب من قوتها الإستراتيجية في المواجهة الدائرة بين العالمين آنذاك.. و شرع لويس التاسع الذي كان يبلغ من العُمر آنذاك ثلاثين عاما في جباية الضرائب من سكان مملكته طوال ثلاث سنوات للإعداد لحملته الصليبية التي كان قد نذرها إن شُفي من مرضه الذي أصابه قُبيلها، فبلغت هذه الأخبار والتجهيزات في فرنسا والبابوية وفي إنجلترا وجنوب إيطاليا أسماع الأيوبيين في مصر، وبالفعل كان الملك لويس قد غادر في نهاية المطاف باريس سنة 646هـ الموافق أغسطس/آب عام 1248م، مبحرا من جنوب فرنسا باتجاه جزيرة قبرص أولا التي وصلها في سبتمبر/أيلول من العام ذاته منتظرا تدفُّق الأمراء الصليبيين والفرنج ليلتئم جمعهم في هذه الجزيرة التي كانت خاضعة للقوى اللاتينية والصليبية آنذاك.
وحين نزلت الحملة الصليبية بقيادة لويس التاسع على شواطئ المنصورة كان الصالح أيوب يعاني من مرض السُّل، وكان يحارب الناصر الثاني الأيوبي ويحاصر مدينة حمص، فترك حصاره وعاد مسرعا إلى مصر، وعيّن على رأس الجيش وزيره ورجله الأمين الأمير فخر الدين بن الشيخ، وكان من عائلة مرموقة لها باع كبير في المشاركة السياسية والعسكرية وولاؤها كبير للأيوبيين في مصر والشام.
أمر الصالح أيوب الأمير فخر الدين بتحصين مدينة دمياط وإرسال أبناء قبيلة بني كنانة ليدافعوا عنها، وكانوا مشهورين بالقوة والشجاعة، وقد نزلت قوات الفرنسيين والصليبيين والإنجليز وغيرهم على سواحل دمياط الرملية، وبعد معركة خاطفة ضد مقدمة الجيوش والمتطوعة المسلمين انتصر الصليبيون، فاندحر المسلمون من البر الغربي لدمياط إلى البر الشرقي.
يقول المقريزي: "وخلا البر الغربي للفرنج، وسار فخر الدين بالعسكر يريد أشموم طناح (مدينة جنوب دمياط)، فلما رأى أهل دمياط رحيل العسكر خرجوا كأنما يسحبون على وجوههم طول الليل، ولم يبقَ بالمدينة أحد ألبتة، وصارت دمياط فارغة من الناس". ويُعلِّق المقريزي على هذا الانسحاب من الأمير فخر الدين الذي اشتهر بالشجاعة والشهامة والقوة بقوله: "فعُدّت هذه الفعلة من الأمير فخر الدين من أقبح ما يشنّع به".
ابتهج الصليبيون بهذا النصر السهل، فقد دخلوا دمياط دون مقاومة تُذكر، وسيطروا على أهم مدينة إستراتيجية في شمال مصر، وأصبح النيل مفتوحا أمام السفن الصليبية للتوغل نحو الجنوب باتجاه المنصورة ثم القاهرة فيما بعد، وقد نزل الروع والفزع بالعالم الإسلامي بعد سقوط دمياط، وقد غضب السلطان نجم الدين أيوب من هذه الفاجعة، حتى قال المؤرخ أبو الفدا وهو أحد أمراء وملوك البيت الأيوبي (ت 732هـ) في تاريخه "المختصر في أخبار البشر":
عرض السلطان الصالح أيوب على الفرنج أن يتنازل لهم عن مدن في بلاد الشام مقابل الانسحاب من مصر، لكنهم رفضوا، وأصرّ الملك لويس وكبار قادته على التقدم والاستيلاء على كامل مصر، وكانت قواتهم العسكرية تساعدهم وتُغريهم بتحقيق هذه الأمنية، فقد بلغ عدد قواتهم خمسين ألف مقاتل.
ومن مدينة المنصورة بدأ الصالح أيوب والقائد العام للجيش الأمير فخر الدين بن الشيخ بإعادة لملمة الصفوف، ووضع خطة جديدة لمقاومة العدو تمثّلت في بادئ الأمر في حرب العصابات، وقد "انطلق البدو المشهورون في حرب العصابات يجوبون الريف، وتقدّموا حتى وصلوا أسوار دمياط، وقتلوا كل جندي من الفرنج أمكن لهم العثور عليه خارج أسوار دمياط، فاضطر الملك لويس لإقامة الحواجز، وحفر الخنادق حول معسكره لحمايته من إغارات البدو".
توفي السلطان الصالح أيوب في تلك الأثناء، وقد كتمت زوجته شجر الدر هذه الأنباء حتى مجيء ابنه وولي عهده توران شاه من حصن كيفا جنوب الأناضول ليتسلم مقاليد الحكم، وفي تلك الأثناء قرر الأمير فخر الدين بن الشيخ المقاومة من المنصورة، والاستمرار في حروب العصابات، لكن يبدو أن أخبار وفاة السلطان الصالح أيوب قد بلغت أسماع الفرنسيين الذين انطلقوا من دمياط بعدما تركوا فيها حامية قوية باتجاه الجنوب، فاستولوا على فارسكور وشرمساح والبرمون، واستشهد الأمير فخر الدين بن الشيخ أثناء مقاومته هذا التقدم الفرنسي مما أنزل بهم هزيمة كبيرة وتفرق الجيش، وكادت أن تكون الهزيمة بالكلية.
شجعت هذه التطورات مقدمة الجيش الصليبي بقيادة روبرت دي أرتوا أخي الملك لويس التاسع على التقدم عبر بحر أشمون، ولم ينتظر عبور بقية الجيش بقيادة لويس طبقا للخطة الموضوعة، فبادر باقتحام المنصورة بقواته وعلى رأسها فرقة فرسان الداوية التي استُشهد على يديها قائد الجيش المصري الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، لكن هذا الجيش الصليبي المتقدم وجد قوة جديدة بقيادة فرقة المماليك الأتراك على رأسهم الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وهؤلاء كان الصالح أيوب قد أكثر من شرائهم وتربيتهم وتدريبهم منذ بداية صعوده للسلطة سنة 637هـ حين رأى فيهم القوة والجرأة.
فحملوا على الفرنج حملة زعزعوهم بها، وأزاحوهم عن باب القصر، فلمّا ولّوا أخذتهم السيوف حتى قُتل منهم في هذه النوبة نحو ألف وخمسمئة من أعيانهم وشجعانهم… وكانت المعركة بين أزقة المنصورة، فانهزموا إلى جديلة (جنوب المنصورة) منزلتهم وقد حال بين الفريقين الليل وأداروا عليهم سورا وخندقوا خندقا".
كان على رأس القتلى روبرت دي أرتوا أخو لويس التاسع، فضلا عن عدد كبير من أمراء الصليبيين، أما فرسان الداوية فقُتل منهم نحو مئتين وخمسة وثمانين فارسا، ولم يستطع الهرب سوى أربعة أو خمسة فقط، وهكذا كانت المنصورة مقبرة الجيش الصليبي وكانت أولى معارك النصر على الفرنج على حد وصف المقريزي.
بقيت المعارك تُشن بين الجانبين، الصليبيون بقيادة لويس في الشمال والمسلمون في المنصورة، وبدأت المؤن والأقوات والغذاء يقل في المعسكر الصليبي، وانتشرت الأمراض والحمى، واستطاع المصريون قطع طريق الإمداد على السفن الصليبية التي كانت تأتي من دمياط لتمد الجيش الصليبي، بل استطاعت السفن الإسلامية أن تستولي على اثنتين وخمسين سفينة صليبية، وبذلك وقع الصليبيون في فخ أو كماشة المسلمين من الشمال والجنوب ومن جهة النيل في الشرق.
وقد حاول لويس التفاوض في هذا الموقف العصيب على أخذ القدس مقابل الانسحاب، لكن السلطان الجديد تورانشاه بن الصالح الذي كان قد وصل إلى مصر وبدأ في إدارة المعركة رفض هذا العرض لإدراكه أن الصليبيين منهزمون لا محالة، وانطلق الصليبيون هاربين نحو دمياط، لكن قوات المماليك كانت تتعقبهم وتتخطفهم بمنتهى الشجاعة والبسالة، وفي منطقة شرمساح وقُراها في منتصف المنطقة الواقعة بين المنصورة ودمياط دارت معركة كبرى سُحق فيها الجيش الصليبي بأكمله بين قتيل وأسير حتى سقط لويس التاسع في الأسر، وقد سيق مكبلا بالأغلال إلى مدينة المنصورة، حيث سُجن في دار قاضي المدينة فخر الدين إبراهيم بن لقمان، ووضعوا عليه خادما شديد القوة والبطش اسمه صبيح الطواشي.
لم يهتم المسلمون كثيرا وهم في نشوة نصرهم بأمر دمياط، إذ باتوا يعتقدون أن استردادها صار أمرا مفروغا منه، وإنما أخذوا يخططون للاستيلاء على جميع الممتلكات الصليبية في الشام عن طريق الضغط على لويس التاسع، ولكن لويس أجاب بأنه لا سلطان له على الصليبيين وممتلكاتهم في الشام، وأن تلك الجهات تتبع الإمبراطور فردريك الثاني الألماني، وفي نهاية المطاف قرّر الطرفان عقد اتفاق صلح فرض المسلمون فيه بقيادة تورانشاه شروطهم، منها دفع مبلغ مئتي ألف دينار ذهبي فورا، ودفع مئتي ألف أخرى مقابل الإفراج عن الأسرى الصليبيين، ومنها تسليم دمياط، واستمرار الصلح بين الطرفين لمدة عشر سنوات.
وهكذا انتهت غطرسة الفرنسيين والصليبيين بقيادة لويس التاسع الذي قُتل الآلاف من رجاله وقواته على رأسهم أخوه، وقد سُجن تحت قبضة الخادم صبيح الذي كان لويس التاسع يخافه ويخشى منه لقوّته وبطشه.