- ℃ 11 تركيا
- 3 ديسمبر 2024
الجاسوس الفاشل.. جمال حسنين العميل الأسرع سقوطاً في تاريخ المخابرات
الجاسوسية اسرار وألغاز .. الحلقة العاشرة
الجاسوس الفاشل.. جمال حسنين العميل الأسرع سقوطاً في تاريخ المخابرات
- 1 يوليو 2024, 8:38:00 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
سافر مجدداً إلى اليونان تسوقه الأماني العريضة بالعمل السريع والثراء الفاحش
عميل مغربي للموساد وعده بتدبير عمل.. ليجد نفسه في القنصلية الإسرائيلية
غسلوا دماغه بظلم العرب لليهود.. ووصية الإسلام بحسن الجوار
سقط الخائن في الكمين الذي نصب له أثناء نومه
عالم الجاسوسية.. عالم غامض عجيب.. تكتنفه الأسرار و تغلفه الألغاز.. يمتلئ بالحوادث التي يصعب تصديقها.. ويندر أن تجول بخاطر أي إنسان.. لا تنتهي عجائب هذا العالم.. ولا تنضب أسراره.
ولا تزال سجلات المخابرات المصرية حافلة بالعديد من الجولات الناجحة التي خدعت فيها الموساد الإسرائيلي وتفوقت عليه وقضت على أسطور الجهاز العبقري.. وكذبت شائعات الذكاء اليهودي الذي لا يهزمه احد أو يخدعه إنسان..
وفي هذه الحلقات نكشف خفايا هذه الملفات.. ونرفع الستار عن قصص جديدة وملفات مخفية شهدت صراعاً شرساً بين العقول.. ومواجهات حامية الوطيس بين المصريين والاستخبارات الإسرائيلية.. كانت أسلحتها الخطط المحكمة.. ومكائد مدبرة بعناية فائقة.. وسطر أبناء النيل بحروف من نور نجاحات مبهرة لعملاء أحسنت المخابرات المصرية تدريبهم.. ليتسللوا داخل المجتمع الإسرائيلي.. واستطاعوا بمهارة فائقة خداع أرقى المناصب. وأعلى الرتب في المجتمع الصهيوني ليحصلوا على أدق الأسرار.. وليكشفوا المستور.. وأماطوا اللثام عما يملكه الكيان المحتل من أسلحة وذخائر.. ونقلوا للقاهرة خرائط تفصيلية لمواقع وتحصينات جيش الاحتلال قبل معركة العبور المجيدة.
ولم يتوقف نجاح المخابرات المصرية على زرع عملاء داخل المجتمع الإسرائيلي وفي بيوت جنرالات جيش الصهاينة.. بل تمكن المصريون ببراعة فائقة من اصطياد جواسيس الأعداء و منعوهم من نقل الأسرار إلى تل أبيب.. وحجبوا عن الموساد المعلومات ووقعت جواسيسه تباعاً.. بل ونجحت المخابرات المصرية في تجنيد بعض جواسيس الموساد وجعلتهم عملاء للقاهرة وأرسلت من خلالهم رسائل خادعة إلى إسرائيل كان لها فضل كبير في خطط الخداع والتمويه التي مهدت لنصر أكتوبر العظيم.
لأن الجاسوسية هي السلاح الرابع كما يطلقون عليها بعد سلاح الطيران والبحرية والقوات الجوية فهي اولاً وأخيراً تعتمد على عقول ماهرة تبني الحقائق، وتحلل المعلومات وتستخلص النتائج وتضع الخطط، وتصنع ما لا يتخيله عقل او منطق من خداع وحرب خفية اسلحتها الذكاء، والشفرة، والرموز، وأجهزة الارسال اللاسلكي، وآلات التصوير، الى جانب العامل البشري، واللجوء لشتى السبل من اغراء او تهديد او ارهاب وخلافه لتجنيد الجواسيس، لذلك اصبحت الجاسوسية هي الأداة الأساسية في تحديد السياسات الدبلوماسية للدولة الحديثة، وكذلك هي المستشار الخفي والأمين لرؤساء الجمهوريات والحكومات عند اتخاذ القرارات المصيرية التي يتوقف عليها مصير الدولة.
ولأهمية الجاسوسية أفردت لها الصحف والكتب والمواقع الإلكترونية صفحاتها لتسجيل أغرب الحوادث وأندر الحالات، وهو ما حولت جمعه وطرحة بين يدي القارئ في هذه السلسلة "سلسلة الجاسوسية أسرار وألغاز .. التي سبق أن نشرتها في جريدة النهار الكويتية في عام 2013 ولأهمية الموضوع ولحب الجمهور لقراءة ملفات المخابرات نعيد نشرها في موقع 180 تحقيقات ... خدمة لقراء الموقع الأعزاء إلى قلوبنا.. وذلك بمعدل حلقة أسبوعية ننشرها يوم الاثنين من كل أسبوع .
رغم الافراج عنه منذ سنوات لكن قصته مازالت مثار حديث المهتمين بأخبار المخابرات وقصص الجاسوسية، كما انه لم يكن عسكريا ولا ملماً بأسرار التسليح لكنه كان مستعداً لبيع وطنه مقابل المال، فكان عقابه السجن 25عاماً قضاها الجاسوس جمال حسنين خلف جدران سجن المزرعة في ابو زعبل، الذي لايزال بين جدرانه عدد من الخونة الذين جندتهم المخابرات الاسرائيلية للتجسس على مصر، ورغم اهمية قصته لكنها لاتخلو من طرافة حيث لم يستمر كثيراً في عملية التجسس وسرعان ما تم القبض عليه ومحاكمته وسجنه لخمسة وعشرين عاماً بعد فترة قصيرة للغاية لم تتجاوز الأيام من العمالة للموساد ولم يرسل سوى رسالة واحدة للصهاينة.
ولأن الجاسوسية هي السلاح الرابع كما يطلقون عليها بعد سلاح الطيران والبحرية والقوات الجوية فهي اولاً وأخيراً تعتمد على عقول ماهرة تبني الحقائق، وتحلل المعلومات وتستخلص النتائج وتضع الخطط، وتصنع ما لا يتخيله عقل او منطق من خداع وحرب خفية اسلحتها الذكاء، والشفرة، والرموز، وأجهزة الارسال اللاسلكي، وآلات التصوير، الى جانب العامل البشري، واللجوء لشتى السبل من اغراء او تهديد او ارهاب وخلافه لتجنيد الجواسيس، لذلك اصبحت الجاسوسية هي الأداة الأساسية في تحديد السياسات الدبلوماسية للدولة الحديثة، وكذلك هي المستشار الخفي والأمين لرؤساء الجمهوريات والحكومات عند اتخاذ القرارات المصيرية التي يتوقف عليها مصير الدولة.
ولد جمال في 29 اكتوبر 1941 بالقاهرة لأسرة موظف صغير في وزارة الشؤون الاجتماعية يعول سبعة افراد. دخل مرحلة التعليم الابتدائي وشق طريقه في التعليم، متعثراً، وتمكن عام 1962 من الحصول على دبلوم في المساحة.. وعين فوراً في مصلحة المساحة بالقاهرة... وكان راتبه الصغير يشعره بأنه قزم تافه، لذلك سعى للحصول على دبلوم المعهد الأوليمبي بالاسكندرية في محاولة للارتقاء بوضعه الوظيفي، وأمكن له بالفعل الحصول على دبلوم المعهد عام 1968، وكانت مصر حينئذ في حالة يرثى لها... وتسعى للنهوض من عثرة النكسة وتنظيم صفوفها من جديد استعداداً للثأر من العدو الاسرائيلي.
في ذلك الوقت لم يكن جمال حسنين بعيداً عن نبض الجماهير... والاحساس بالمهانة لهزيمة الجيش واحتلال ارض عربية اخرى. وحنق كثيراً على القيادة العسكرية، وكثيراً ما كان يجادل اصحابه ويثور لأنه لم يلتحق بالقوات المسلحة بسبب الفلات فوت اللعين. وكظم غيظه وأحلامه وحبس طموحه بداخله الى ان تحين اللحظة المناسبة للتحرك.
ولكن الوقت يجري وسماح تنضج وتفور انوثتها ولا يزال كما هو بلا حركة.. وخطابها عرفوا الطريق لبيتها فتملكه الرعب لمجرد ان تخيل خطبتها لآخر. ولما اضناه الأرق وهده الفكر... صارح والده بحبه للفتاة ورغبته في الزواج منها... فقال له عليك ان تدبر حالك.
أسرع الشاب العاشق الى اسرة فتاته يطلب يدها.. فاشترطوا عليه ما يعجز عن تحقيقه... ولكنه في سبيل الفوز بها قرر المغامرة وتملكته فكرة السفر الى بيروت للعمل.
كانت بيروت وقتئذ قبلة الباحثين عن الرزق الوفير وتتعدد بها مصادر الرزق لكل من سعى، وتقدم جمال حسنين بطلب الحصول على اجازة من عمله بدون راتب كان راتبه 16 جنيهاً فسمح له بإجازة ستة اشهر. وقبل ان يغادر الاسكندرية الى بيروت بحراً، أخضع لدورة توعية تثقيفية مع غيره من الراغبين في السفر خارج مصر لأول مرة، والمحاضرون بالطبع ضباط في جهازي المخابرات العامة والمخابرات الحربية. وكان هذا النظام معمول به في ذلك الوقت نظراً لاكتشاف العديد من الجواسيس وتبين ان غالبيتهم وقعوا في براثن الموساد بعد اغرائهم بالمال والنساء، وفي قراره نفسه... سخر جمال حسنين من ضعاف النفوس الذين سقطوا في شباك الموساد واحتقرهم، وانتبه جيداً للطرق المختلفة التي يصفها الضابط المحاضر للايقاع بالشباب المصري في الخارج.
بداية الطريق
وفي السفينة الى بيروت تمدد على سطحها يتأمل وجه حبيبته فتخيله ماثلاً امامه على صفحة المياه الممتدة.. والتي لا نهاية لها. ولم تكن يده تمتد كثيراً الى محفظته الجلدية التي تحوي صورتين لسماح الجميلة، فوجهها الرائع النقاء بكل بهائه محفور في فؤاده وموشم على خلاياه. كان يمني نفسه بعمل مربح في بيروت، اي عمل، لا يهم انها حرب عليه ان يخوضها ليفوز بالحبيبة. وفاق من تخيلاته وأفكاره على شاب سوري يعمل في التجارة ما بين بيروت والاسكندرية، وتطرق الحديث بينهما لنواح عديدة.. ولما سأله جمال عن امكانية العمل في بيروت افاده بأن لبنان سوق مفتوح للعمل، وفرص الكسب به متوفرة إذا ما ذهب الى مقهى فاروق، ومجرد ان غادر السفينة توقفه الزحام وصافحته الوجوه بتجاهل، وقادته قدماه الى حي المزرعة جنوبي الميناء... وفي بنسيون رخيص وضع امتعته وذهب الى مقهى فاروق اشهر المقاهي هناك، حيث بالامكان العثور على صاحب عمل، فالمقهى يعرفه كل المصريين في بيروت ويرتادونه ويتواعدون على اللقيا به. لذا فهو يموج بالوجوه المصرية المرهقة التي تغربت من اجل الحصول على المال.
خالي الوفاض
وظل جمال حسنين ينفق من الجنيهات القليلة التي حولها الى ليرات لبنانية ومرت الأيام على هذا النحو، ولم تظهر في الأفق بشائر خير او تبدو بارقة من امل. حاول كثيراً ففشل، وقبل ان تنفذ نقوده حمل حقيبته خائباً وعاد الى القاهرة... تعشش الكآبة بأعماقه ويحس بالقهر يطحن اعصابه، استقبلته سماح فرحة بعودته بعد ثلاثة اشهر من الغربة، وحاولت اقناعه بالعمل في احدى الشركات بعد الظهر لإنجاز المطلوب منه للزواج، لكنه كان دائم الشكوى وسب الحال وغير قانع بالمقسوم له. وبات يحلم من جديد بالسفر الى اليونان... انها الحلم الكبير الذي سيتحقق، ومنى نفسه بأن فشل رحلة بيروت لن يتكرر، بعدما ثبت لديه انه لا مناص من الخروج من ازمته الا بالسفر، وعقد العزم على الاستماتة هذه المرة، وعندما رفض توسلات سماح، تركته يائسة يفعل ما يريد، ولما تقدم للعمل بطلب اجازة اخرى.. رفض طلبه... فقدم استقالته على الفور، وركب سفينة قبرصية الى ميناء بيريه لا يملك سوى مائتي دولار اميركي وعدة جمل بالانكليزية.
ولأن بيريه اشهر موانئ اليونان ففرص العمل بإحدى الشركات البحرية متوافرة.. هكذا قيل له في القاهرة، وأظلمت الدنيا في وجهه بعد ما تأكد من كذب المقولة.. لكن ذلك لم يتحقق بسهولة ومرت الأيام دون عمل.. وكلما يمر به يوم بدون عمل... تضطرب اعصابه ويختنق صدره ويقترب من حافة الجنون.
بيع الهوية
وفي قمة معاناته التقى شابا مغربيا يدعى سمعان... يشكو حاله... فيطمئنه بأنه سيسعى من اجل توفير عمل له، وظل يعده يوماً بعد يوم الى ان فرغت جيوبه حتى من كسور الدراخمة، فأقنعه سمعان ببيع جواز سفره والابلاغ عن فقده فوافق جمال حسنين... واصطحبه المغربي الى القنصلية الاسرائيلية في بيريه، بحجة وجود صديق له هناك سيشتري منه جواز السفر... وقد يدبر له عملاً في احد الفنادق. وبسذاجة شديدة ذهب معه ليلتقي داخل القنصلية الاسرائيلية بأحد ضباط الموساد الذي وعده بإيجاد عمل له خلال ايام، وطلب منه ان يجيب على الأسئلة المكتوبة في استمارة التعارف عن حياته وأسرته وأصدقائه ووظائفهم وعناوينهم ليتمكن من توفير فرصة عمل مناسبة له... وتفاوض معه بخصوص جواز السفر فاشتراه بمائتي دولار.. بعد ذلك اصطحبه سمعان الى فندق ايسخيلوس الشهير وحجز له غرفة رائعة تخوف جمال حسنين من سعرها المرتفع لكن عميل الموساد طمأنه بأنه ضيف على القنصلية الاسرائيلية.. التي لا تدخر وسعاً في مساعدة الشباب العربي بقصد ابراز الصورة الحقيقية للاسرائيليين التي يعمل الاعلام العربي على تشويهها.
وبعدما خلا جمال الى نفسه تساءل عما يدور حوله، وتذكر الدورة الارشادية التي تلقاها في مصر قبل سفره، وما قيل له عن اساليب المخابرات الاسرائيلية المختلفة في استقطاب المصريين بالخارج... والحيل المموهة الذكية - التي تبدو بريئة - لجرهم الى التعاون معهم، بدعوى العمل على مساعدتهم.. وبشعارات زائفة رنانة يعملون على ازالة حاجز الخوف من التعامل معهم، وما كان قصدهم في النهاية الا الايقاع بضعاف النفوس الذين تواجههم ظروف صعبة في الخارج وقطع تفكيره اتصال من شخص لا يعرفه اسمه يوسف ابلغه بأنه مكلف بإيجاد عمل له.
فرح جمال كثيراً بذلك الضيف البشوش ودار بينهما حديث يغلفه الود عن الحياة والدين والطبيعة، ثم تطرق يوسف الى مشكلة الشرق الأوسط، والسلام الذي يجب ان يسود المنطقة... وحقوق الجار التي اوصى بها الاسلام كما تطرق الحديث الى خطبته بفتاة في مصر وأطلع على صورتها... ضحك ضابط الموساد من تواضع ملامحها وقال له: إنك في اليونان فلماذا لا تستمتع كما يحلو لك؟
وأخذه الى سهرة لم يصادفها من قبل. وعلى الباب الخارجي للنادي الليلي وقفت سيدة عجوز تمسك بعدسة نظارة ذات عين واحد تستقبل الزوار بحفاوة كبيرة.. وعندما رأت جمال حسنين هتفت في سعادة قائلة: - اوه ايها المخلص... الا زلت تتذكرني؟!.. وهي تنظر باندهاش الى الضابط: انه زبون قديم عندي.. ضحك جمال بينما يدلف من الباب الداخلي وهو يقسم بأنه لم ير المرأة من قبل.
وبعد سهرة جميلة عاد جمال الى حجرته ترافقه فتاة لعوب استطاعت على مدى يومين أن تستنزف دولاراته... وتركته خاوي الوفاض في بلاد الغربة... يطوف ضباط المخابرات الاسرائيلية من حوله ويخططون لاصطياده.
نقطة ضعف
وفي قمة محنته ذهب إليه بالفندق شخص آخر اسمه ابراهيم... وذكر له بأنه صديق يوسف وأنه قرأ استمارة بياناته ومعجب جداً به.. كان ابراهيم ضابط مخابرات ماهر... استطاع التعرف على نقطة الضعف التي يعاني منها جمال... فركز عليها جيداً... واستغل جهله بالسياسة والتاريخ وأخذ يروي على مسامعه الأكاذيب والمفتريات عن مشكلة اليهود، وسجل الحوار الذي دار لينتزع منه اعترافاً ضمنياً بحق اليهود في فلسطين، ثم اخذ يضغط على مشكلة الأزمة الاقتصادية التي تعاني مصر منها، بدليل تواجده في اليونان بحثاً عن عمل ليتمكن من الزواج، وأرجع الضابط هذه الأزمة الى حالة التأهب الدائم للحرب التي تدمر خطط مصر للتنمية.
ولأنه احمق وجاهل اقتنع جمال حسنين بآراء الضابط الذي شحنه نفسياً ومعنوياً ووصل به الى المدى المطلوب في الاندفاع والتهور وسب النظام في مصر وانتقد الحياة بها.
وكما هو معلوم فان الطرق على الحديد الساخن اسهل الطرق لتشكيله، وأمام حالة الضعف التي وصل اليها جمال فلا مال لديه ولا حصانة من وطنية، بالإضافة الى كلمات متناثرة فهم منها أن له صوراً عارية مع الفتاة الداعرة، امور كلها هيأت مناخاً مناسباً لتجنيده، خاصة بعدما اقنعه ضابط الموساد بأن الجاسوس الذي يسقط في ايدي المخابرات المصرية، لا بد لهم من مبادلته في صفقة سرية بواسطة الصليب الأحمر الدولي او الدول الصديقة، وذكر اسماء كثيرة لجواسيس مصريين تمت مبادلتهم... ويعيشون في اسرائيل في فيلات فاخرة، وتم سحب اسرهم من مصر تباعاً. هكذا كانوا يقنعونه ويضيقون عليه الخناق فيجد صعوبة في التفكير او الفرار. وسقط جمال حسنين في قبضة الموساد، وفي شقة مجهزة بكل ادوات الرفاهية.. اقام الخائن برفقة ضابط الموساد ليتعاطى شراب الخيانة وليتعلم مبادئ الجاسوسية. ولأنه لم يلتحق بالقوات المسلحة فقد دربوه على كيفية تمييز الأسلحة المختلفة بواسطة عرض افلام عسكرية وأسلحة.. وعقد اختبارات له لبيان مدى استيعابه ولكونه يعمل في مصلحة المساحة، فقد كانت لديه خبرة كبيرة في وصف المباني والمنشآت ورسم الخرائط المساحية، وتقدير المسافات والارتفاعات، وبالتالي رسم الأشكال المختلفة وكل مظاهر الحياة التي تصادفه. لم تمر أربعة اسابيع.. وأنهى جمال حسنين الدورة التدريبية ببراعة... وتخرج من تحت يد ضابط الموساد جاسوساً خبيراً، وخائناً مخلصاً لإسرائيل. الرسالة الوحيدة، كان - ضابط الموساد - ابراهيم هو المسؤول عن تلميذه النجيب، ويعني بتوجيهه ومتابعته، ويلزم لذلك ربط علاقة إنسانية قوية بينه وبين الجاسوس. وفي امسية سمر لاحظ شروده وقلقه، وحاول جاهداً مساعدته حتى لا تتوقف مراحل خيانته، فصارحه جمال بمدى تعقله الشديد بسماح، وخوفه من عودته خاوياً فتضيع منه، فطمأنه ابراهيم وأمده بألف دولار مكافأة، فضلاً عن راتب شهري قدره مائتي دولار، ومكافأة اخرى 50 دولاراً عن كل رسالة تحمل معلومات قيمة يرسل بها الى روما لاسم كاستالا يوستالي ص. ب. 117، وأمضى الخائن التعس في بيريه أربعة أشهر حتى لا يثير الشكوك بالأموال التي معه، ثم اعد حقيبته وسافر بالطائرة الى القاهرة يحمل فستان الزفاف لعروسه هدية من المخابرات الاسرائيلية، كان عجولاً جداً... اذ لم ينتظر حتى تزف اليه حبيبته، بل شرع في الحال في كتابة رسالة عاجلة- بدون حبر سري- الى صديقه الوهمي يوستالي- يخبره فيها بوصوله سالماً وزواجه قريباً.
وبعدها عمد إلى زيارة أقاربه وأصدقائه من عسكريين ومدنيين وسؤالهم عن احوال الجيش والحرب... وكان يسجل كل ما يصل اليه في مفكرة خاصة حتى جمع بعض المعلومات التي اعتبرها مهمة لإسرائيل، وأغلق عليه حجره وسطر - للمرة الأولى - رسالة بالحبر السري، تضمنت ما جمعه من معلومات وأرسل بها الى روما. وادعى أنه يحمل رسائل من أصدقاء في اليونان الى ذويهم في الاسكندرية ودمياط والمنصورة ومرسى مطروح. وقام بزيارة لهذه المدن لعله يصادف ما يثير انتباهه من تحركات عسكرية... او تنقلات للأسلحة بواسطة القطارات او سيارات النقل العملاقة.
حالة يأس
كانت الأوضاع في مصر اثناء تلك الفترة نوفمبر 1972 في غاية الصعوبة بسبب حالة اللاسلم واللاحرب التي هيمنت على الطقس العام، وهناك حالة من القلق والتذمر تسود الشارع المصري يأساً من خطب الرئيس السادات التي لا تحمل اي نية للرد على الصلف الاسرائيلي المستفز، بل تفيض بالوعود الكاذبة بالحرب مما خلق شعوراً بالإحباط لدى الشعب.. وكانت المخابرات الاسرائيلية ترسل بجواسيسها الخونة.. لاستقصاء حالة الشعب والجيش... ففي تلك المرحلة الحرجة كان الغليان العربي على اشده، و خاصة ان عمليات المقاومة الفلسطينية اتخذت مساراً آخر في مواجهة اسرائيل، بعدما تقاعست دول المواجهة عن الاقدام على ضربها.
لذلك، فقد كثفت اسرائيل من نشاطها التجسسي داخل الأراضي المصرية... لعلمها ان مصر هي زعيمة العرب وكبرى دول المواجهة التي حتماً ستثأر وتسترد سيناء.
بالطبع قابل هذا التكثيف التجسسي جهداً متزايداً من المخابرات الحربية والمخابرات العامة المصرية، لضبط ايقاع الأمن في الداخل والخارج... فسقط عدد كبير من الجواسيس ما قبل اكتوبر 1973، وكان من بينهم جمال حسنين الذين ارسل رسالته الوحيدة الى مكتب الموساد في روما. وبواسطة رجل المخابرات الذكي الذي يعمل رقيباً على البريد... اكتشف الكتابة بالحبر السري في الرسالة... وبدأت على الفور مطاردة شرسة بين المخابرات المصرية والجاسوس في معركة سرية لا يشعر بها احد.. وسباق محموم مع الزمن من اجل القاء القبض عليه.
في فترة وجيزة جداً.. سقط الخائن في الكمين الذي نصب له مساء يوم 29 نوفمبر 1972 اثناء نومه في هدوء.. ومن بين الأدلة الدامغة على تجسسه لصالح الموساد ضبطت المفكرة التي سجل بها معلومات جديدة قام بجمعها، وتقريراً عن زيارته لبعض المدن، ورسالة انتهى من كتابتها بالحبر السري كان ينوي ارسالها الى روما في الصباح. اصطحبوه الى مبنى المخابرات لاستجوابه، واعترف مذهولاً بكل شيء في الحال. وأقر بأن حصيلة المعلومات التي جمعها كانت من معارفه وأقربائه، الذين كانوا يتحدثون امامه بما يعرفونه من معلومات... وهم على ثقة به ولا يتصورون ان بينهم جاسوساً ينقل ما يتفوهون به الى اسرائيل.. وأثناء محاكمته اخبروه بأن سماح زفت لآخر وسافر بها الى دول خليجية، فسرت بشرايينه مرارة شديدة لا تعادل احساسه بمرارة جرمه وخسة مسلكه. وحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة (25 عاماً) بين جدران السجن ليلاً وفي تكسير الحجارة نهاراً، لولا ظروفه التي مر بها قبل وأثناء تجنيده... وقصر تجسسه على رسالة واحدة تحوي معلومات تافهة لكان نصيبه الاعدام.
جريدة النهار الكويتية