- ℃ 11 تركيا
- 23 نوفمبر 2024
الجاسوس المنتحر .. رجب عبد المعطي والمنزلق الأول( 1-2)
الجاسوس المنتحر .. رجب عبد المعطي والمنزلق الأول( 1-2)
- 8 يوليو 2024, 9:30:17 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
نشأ وحيداً مدللاً لتاجر سكندري.. وفشل في الحصول على شهادة الثانوية
افتتح بأموال والده مكتباً لخدمات الملاحة ليخرج عبقريته الفذة كفريد عصره
منى بخسائر فادحة وفر هارباً إلى اليونان.. ليترك والده في مواجهة الدائنين
- طلب المعونة من سفارة إسرائيل في أثينا فدربوه على فنون التجسس في تل أبيب
- أغدقوا عليه الأموال والنساء.. وسددوا عنه الديون ليفتتح شركته من جديد
- اندفع بكل ثقله تجاه المخابرات الإسرائيلية وصادق الكثير من ضباطهم في أثينا
عالم الجاسوسية.. عالم غامض عجيب.. تكتنفه الأسرار و تغلفه الألغاز.. يمتلئ بالحوادث التي يصعب تصديقها.. ويندر أن تجول بخاطر أي إنسان.. لا تنتهي عجائب هذا العالم.. ولا تنضب أسراره.
ولا تزال سجلات المخابرات المصرية حافلة بالعديد من الجولات الناجحة التي خدعت فيها الموساد الإسرائيلي وتفوقت عليه وقضت على أسطور الجهاز العبقري.. وكذبت شائعات الذكاء اليهودي الذي لا يهزمه احد أو يخدعه إنسان..
وفي هذه الحلقات نكشف خفايا هذه الملفات.. ونرفع الستار عن قصص جديدة وملفات مخفية شهدت صراعاً شرساً بين العقول.. ومواجهات حامية الوطيس بين المصريين والاستخبارات الإسرائيلية.. كانت أسلحتها الخطط المحكمة.. ومكائد مدبرة بعناية فائقة.. وسطر أبناء النيل بحروف من نور نجاحات مبهرة لعملاء أحسنت المخابرات المصرية تدريبهم.. ليتسللوا داخل المجتمع الإسرائيلي.. واستطاعوا بمهارة فائقة خداع أرقى المناصب. وأعلى الرتب في المجتمع الصهيوني ليحصلوا على أدق الأسرار.. وليكشفوا المستور.. وأماطوا اللثام عما يملكه الكيان المحتل من أسلحة وذخائر.. ونقلوا للقاهرة خرائط تفصيلية لمواقع وتحصينات جيش الاحتلال قبل معركة العبور المجيدة.
ولم يتوقف نجاح المخابرات المصرية على زرع عملاء داخل المجتمع الإسرائيلي وفي بيوت جنرالات جيش الصهاينة.. بل تمكن المصريون ببراعة فائقة من اصطياد جواسيس الأعداء و منعوهم من نقل الأسرار إلى تل أبيب.. وحجبوا عن الموساد المعلومات ووقعت جواسيسه تباعاً.. بل ونجحت المخابرات المصرية في تجنيد بعض جواسيس الموساد وجعلتهم عملاء للقاهرة وأرسلت من خلالهم رسائل خادعة إلى إسرائيل كان لها فضل كبير في خطط الخداع والتمويه التي مهدت لنصر أكتوبر العظيم
قصة الجاسوس المنتحر رجب عبد المعطي ليست كغيرها من قصص الجاسوسية أو المخابرات، حيث عاش خائناً ومات يائساً من رحمة الله.. اسلم نفسه لأعداء الدين والوطن وصدق أكاذيبهم عن الظلم والاضطهاد، ولا يذكرون شيئاً عن عدل المسلمين والعرب معهم، وملأوا رأسه بتلك الأكاذيب، التي يستدرون بها عطف الجهلاء والمغيبين، وقرر أن ينهي حياته بعدما كشفته المخابرات المصرية.
وقصة رجب بدأت منذ ولادته في الأول من أكتوبر 1937.. ولم يكن والده الذي فرح به عند مولده يتوقع أن تكون هذه نهاية هذا الطفل الذي فرحوا به مأساوية على هذا النحو، وتبدأ قصة الخائن المنتحر بمولده بعدما امتلأ منزل الحاج عبد المعطي بعدد غفير من الأهل والأصدقاء الذين حضروا ليباركوا مقدم مولوده الأول رجب، ولكون الحاج عبد المعطي تاجراً مشهوراً في حي القباري بالاسكندرية فقد انهالت عليه الهدايا من الأقارب والأصدقاء وخاصة أن المولود جاء بعد انتظار طويل مليء بالقلق والصبر والترقب وتجارب لا حصر لها مع الأطباء والأدوية، وفي شهر رجب جاء المولود رجب بعد طول انتظار.
وفرحا بالمولود المنتظر قرر أبوه زيارة البيت الحرام وهناك في الأراضي المباركة رفعا الوالدان أيديهما عند الكعبة المشرفة يطلبان من الخالق جل شأنه أن يبارك لهما في رجب ويشكرانه على عطيته، وشب الوليد الوحيد مدللاً طرياً بعدما وفر له أبوه كل أسباب العيش الرغيد، وجعل منه شاباً خنوعاً ناعماً مرهفاً.. وكانت النتيجة الطبيعية لذلك أن أخفق الابن المدلل اخفاقاً ذريعاً في الحصول على الثانوية العامة..وبعد عدة محاولات فاشلة أوهم الابن الناعم نفسه بأن له من العقل والذكاء ما لم يملكه غيره..ويستطيع بدون شهادات أن يصبح رجل أعمال مشهوراً ينافس عمالقة السوق والميناء في مدينة الثغر، ووسوس له الشيطان أن ما يحتاجه هو فرصة يثبت من خلالها أنه عبقري أوانه وفلتة زمانه ووحيد عصره.
وباءت محاولات الوالد الحاج عبدالمعطي في افاقة ابنه من سكرة الغرور واعادته الى طريق الصواب ففشل..بعدما سيطرت على رجب عبقرية كاذبة نشأت من فراغ العقل و ضحالة الثقافة وصار يحلم ليل نهار بشركة رجب للخدمات البحرية التي سيحقق من خلالها النجاح المبهر الذي لم يستطعه غيره.
عبقري زمانه
ورفض والده امداد الابن الملل بالمال اللازم في محاولة من الأب لأن يكتسب رجب بعض الخبرة،فاضطر الولد الفلتة للموافقة على العمل في وظيفة كاتب حسابات بميناء الاسكندرية ارضاء لوالده، واستغرق في عمله الجديد حتى توسعت مداركه واستوعب الكثير من الخبرة بعد الاحتكاك الفعلي في الحياة.
وبعد ثلاثة أعوام من العمل في الميناء.. لم ينس حلمه الكبير ففاتح أباه مرة ثانية لكي يمده بالمال اللازم لافتتاح شركة خدمات بالميناء ولكن هذه وهذه المرة كان عنده اصرار شديد على التنفيذ وغادر المنزل غاضباً رداً على رفض والده للأمر وتحت ضغوط الأهل والأصدقاء رضخ الأب أخيراً أمام رغبة ابنه وأمده بعدة آلاف من الجنيهات وهو على ثقة من فشله وخسارته، وغمره للمرة المليون احساس بندم شديد لأنه دلل ابنه وفتح له منذ الصغر خزينة أمواله ليغرف منها كيفما يشاء..وتمنى بينه وبين نفسه لو أن الزمن عاد به الى الوراء فيعيد تربيته على النحو الصحيح وينشئه فتى معتمداً على ذاته فيشب رجلاً يعرف قيمة العلم والمال.
أما من ناحية رجب فكان يدرك ما يدور بعقل والده، وأراد أن يؤكد له كذب ظنه واعتقاده.. فتوسع في أعماله دون خبرة كافية بمتطلبات وظروف السوق وتقلباته، وكانت النتيجة المتوقعة خسارة جسيمة مُني بها وفشلاً ما بعده فشل.. وديوناً تراكمت فوق رأسه.
كساد النكسة
ووقعت نكسة يونيو 1967 وعمت حالة الكساد الأسواق فازدادت معها الأمور سوءاً، وحاول رجب باستماتة أن يقاوم التيار الجارف بالأسواق الكنه فشل فخارت قواه وغرق في ديونه.. وقام بتصفية الشركة وحزم حقائبه ووجد نفسه على ظهر مركب يشق مياه البحر الى ميناء بيريه في اليونان، ونزل في بنسيون بروتاغوراس وحاول جاهداً أن يعثر على عمل لكنه باء بالاخفاق.. فلجأ الى بحار يوناني يدعى زاكوس تعرف عليه ذات ليلة في الاسكندرية وسهرا سوياً في مدينة الثغر.. وكذب عليه مدعياً أنه ينجز احدى صفقاته التجارية واستولى منه على خمسمائة دراخمة وهرب الى العاصمة أثينا حيث ضاقت به المدينة الساحلية ووجد الحياة أكثر ضجيجاً وحركة في أثينا،ونزل في بنسيون زفيروس وجلس وحيداً يفكر نفسه من الحالة السيئة التي وصل اليها: لقد مر به شهر تقريباً ولم يعثر على عمل بعد، انه الآن عاطل ينفق ليعيش.. وعما قريب ستنفد الأموال التي اقترضها من العجوز اليوناني زاكوس.
ورغم سفر مئات المصريين الى اليونان ليعملوا في أي شيء وكل شيء.. لكن رجب يبحث عن عمل من نوع آخر يتناسب وعبقريته وذكائه الشديد، وكثيراً ما حدث نفسه قائلاً لا أحد يفهمني في هذا العالم.. لقد صور له خياله الواسع أنه مضطهد وأن الأقدار تظلمه.. وكان يصبر نفسه بأن معظم عباقرة العالم اضطهدوا قبله، ويقوي عزيمته بأنه يواجه قوى الاضطهاد التي تطارده أينما حل وعليه بالصبر حتى يكتب له النجاح.
وبينما هو يتجول في شارع سوفوكليس بالعاصمة التقى بشاب مصري من برديس بسوهاج بصعيد مصر يعمل في مصنع للعصائر.. عرض عليه أن يعمل معه في قسم التغليف لكنه أبى بشدة أن يعمل بوظيفة تافهة ومتواضعة كهذه.. واستعرض أمامه سيرة حياته السابقة في مصر.. فما كان من الشاب الصعيدي الى أن نصحه بالعودة الى الاسكندرية لكيلا يقع فريسة سهلة في قبضة المخابرات الاسرائيلية.. التي تتصيد الشباب المصري العاطل في اليونان وتغريه بالعمل معها مقابل مبالغ كبيرة، وسخر رجب في داخله من نصيحة الشاب له بالعودة.. فقد كان والده يعاني الأمرين من حجم الديون التي خلفها له ومن مطاردة الدائنين في المتجر كل يوم.
تزاحمت الأفكار في رأسه وغمرته احساسات اليأس من صلاح أمره في أثينا.. والخوف من العودة يجر أذيال الخيبة والفشل.. وداهمه شعور بالضآلة و اخذ يصبر نفسه قائلاً: لن أيأس.. لن أستسلم أبداً مهما حدث، أيقظته دقات الباب من أفكاره. وكان الطارق موظف حسابات البنسيون. فطلب منه امهاله عدة أيام.. وما كانت جيوبه تحوي سوى دراخمات قليلة لا تكفي لأسبوع واحد الا بالكاد.
هرب منه النوم واختنق صدره واهتزت أمامه الرؤى وعندما تذكر مقولة الشاب الصعيدي المخابرات الاسرائيلية تدفع الكثير قال لنفسه لن أخسر أكثر مما خسرت وقرر أن يلقي بنفسه في وحل الخيانة وأمسك بالقلم ليكتب:
رسالة للعدو
السيد المبجل/ سفير دولة اسرائيل في أثينا
أنا موظف مصري أقيم في بنسيون زفيروس، ضاقت بي الدنيا وظلمتني في الاسكندرية وفي أثينا، قال لي البعض انكم تمدون يد المساعدة لكل من يلجأ اليكم وأنتم الملجأ الأخير لي. فأرجو أن أنال عطفكم واهتمامكم.
رجب عبد المعطي أثينا 27/12/1967
ولم تكد تمر ثلاثة أيام حتى فوجئ بمندوب من السفارة الاسرائيلية ينتظره في صالة الاستقبال.. فاصطحبه الى السفارة وهناك قابلوه بود وقالوا له: وصلتنا رسالتك ولم نفهم منها ماذا تريد بالضبط؟ أجاب بصوت غلفه الرجاء: أريد أن أعمل في أثينا.
سلمهم جواز سفره وتركوه ثلاث ساعات بمفرده.. ثم جاءوا له باستمارة من عدة صفحات. تحمل اسم السفارة وشعار دولة اسرائيل.. وطلبوا منه أن يملأها ويكتب سيرة حياته وأسماء أصدقائه وأقاربه ووظائفهم.
وبعدما تبين لهم أنه أمضى ثلاث سنوات في العمل داخل ميناء الاسكندرية.. طلبوا منه أن يكتب تقريراً مفصلاً عن الميناء وأهميته الاقتصادية والعسكرية ففعل، واستعرض ما لديه من مظاهر العبقرية الفذة في شرح كل شيء عن الميناء بتفصيل مطول.. فأذهلتهم المعلومات التي كتبها عن الميناء.. وأدرك ضابط الموساد الذي شرع في استجوابه بأنه وقع على كنز ثمين، و عليه أن يعمل على استثماره وحلْب ما لديه من معلومات.
وفي الحال سددوا حسابات البنسيون كافة ونقلوه الى فندق أورفيوس.... وأعطوه مائتي دولار أميركي وتركوه عدة أيام يمر نهاره وهو يغط في سبات عميق.. وفي الليل يتذوق طعم السهر في حانات وكباريهات أثينا المتحررة.. ويصاحب أجمل فتياتها وداعراتها في شارع ارستيديس الشهير، وعندما نفدت نقوده تماماً ود لو عاد اليه مندوب السفارة الاسرائيلية ببعض المال ليكمل مسيرة اللهو والسكر.
وحدث ما توقعه وجاءه المندوب بمائتي دولار أخرى.. فاستغرق في مجونه وتمنى لو استطاع أن يفعل أي شيء في سبيل أن يحيا حياة مرفهة في أثينا، أغرقته المخابرات الاسرائيلية بالمال حتى اطمأن الى رجالها.. وكلما نفدت نقوده ذهب بنفسه لمقابلة أبو ابراهيم في السفارة الاسرائيلية يعرض عليه خدمات مقابل الدولارات التي يأخذها، فيؤجل ضابط الموساد الحديث في هذا الأمر لوقت آخر.. وينصرف رجب بالنقود فيرتع بين الحسان عاريات الظهر والنهود هو بينهن يختال اختيالاً.
أرض الميعاد
وهكذا اندفع رجب عبد المعطي بكل ثقله تجاه المخابرات الاسرائيلية.. وصادق الكثير من ضباطها في أثينا ظناً منه أنهم سينقذونه من شبح الافلاس الذي غرق فيه، ورحب كثيراً بضابط الموساد ابوابراهيم الذي فوجئ به يزوره في حجرته بالفندق الفخم.. ويحدثه طويلاً عن أزمة الشرق الأوسط والوضع المتفجر في المنطقة بسبب الحروب مع العرب.. وحقهم في أن يعيشوا فوق أرض الميعاد في سلام وأمان.. وأنهم ليسوا شعباً يحب سفك الدماء بل أمة مشردة ضعيفة تسعى الى العيش في هدوء بلا حروب أو صراعات واستعرض أبو ابراهيم في سرد أساطير وقصص اللص الذي يبرر مشروعية سرقاته ثم سأل رجب فجأة.. والابتسامة تملأ وجهه: هل ترحب بالعمل معنا لصالح السلام؟
بالطبع.. ولكن.. أي عمل بالتحديد؟
أخرج ضابط الموساد الخبير أربع ورقات ذات المائة دولار ودسها في يد رجب وهو يقول: أنت كثير الأسئلة.. هل تعتقد أننا نريدك سفيراً لنا في مصر؟
- اذن.. ما المطلوب مني؟
- ألا تسأل كثيراً لكي لا أغضب منك.. عليك فقط أن تعرف أننا أصدقاء.. وأن لكل حديث أوان.
هز رجب رأسه علامة على الرضوخ والطاعة ولحقه أبو ابراهيم بسؤال ذا مغزى: -هل لك صديقة في أثينا؟
أجابه على استحياء: - هجرتني فتاة تدعى انكسيمي ندرا لأنني لا أعرف اللغة اليونانية وقد ضاقت بانكليزيتي الركيكة.
- أوه.. أتقصد تلك الفتاة التي يملأ النمش وجهها؟دعك منها وسوف أعرفك بفتاة رائعة تتحدث العربية وستكون معك ليل نهار في أثينا.
تهلل وجهه وارتفع حاجباه دهشة وقال: أين هي؟ أريدها حالاً..
- ستكون الى جوارك في الطائرة أثناء رجوعك من تل أبيب.
بهت رجب ووقف فجأة كالملسوع وقال بصوت متلعثم: تل أبيب؟
- نعم.. !!
بسرعة قالها ضابط الموساد بلغة الواثق، وأضاف كأنه يأمره بتنفيذ قراره الذي لا رجعة فيه: ستسافر اسرائيل بعد عدة أيام.. وفي الغد عليك أن تحضر اجتماعاً مهماً في السفارة لمناقشة خطوات تنفيذ هذا الأمر فهل عندك اعتراض؟
هربت الكلمات وغاصت في قرار عميق.. وأجاب رجب الذي بدا كالأبله لا يضبط خلجاته: لا.. لا.. أنا لا أعترض.. انها مفاجأة لي.
- عندما كتبنا تقريراً عنك وأرسلناه الى اسرائيل.. طلبوا منا أن نأخذك في رحلة سريعة الى هناك ليتعرفوا عليك أولاً. وثانياً هناك مفاجأة سارة تنتظرك. وثالثاً: لتختار صديقتك بنفسك من بين أجمل فتياتنا وتصحبها معك الى أثينا. سكت رجب ولاحقه أبو ابراهيم: المخابرات الاسرائيلية اذا أعطت فهي سخية بلا حدود، واذا غضبت ومنعت فطوفان من الهلاك قادم، وثق يا رجب أننا ودودون معك الى أقصى درجة.. أعطيناك أكثر من ألف وخمسمائة دولار حتى الآن ولم نطلب منك أدنى شيء، ألا يدل هذا على كرم منا أيها اللئيم؟، وربت ضابط الموساد كتف رجب الغارق في الذهول وهو يقول في لغة ظاهرها الثقة وباطنها التهديد والبطش: عليك ألا تضيع هذه الفرصة، انتهزها، واركب قارب النجاة تنج نفسك من الطوفان والهلاك.
انصرف ضابط الموساد.. وخرج بعده رجب لينفق دولارات الموساد على الخمر وجسد داعرة يتسلى حتى يحصل على الجارية الاسرائيلية التي وعدوه بها، وفي الصباح الباكر كان يقف أمام باب سفارة اسرائيل في العاصمة اليونانية واجتمع بخمسة من ضباط الموساد أربعة من ضباط الموساد في أثينا، والخامس جاء من فيينا.. يبدو أنه أكثر دراية بالتعامل مع الخونة وتطويع الجواسيس، طلب من رجب أن يرسم له خريطة الميناء في الاسكندرية وأين يقع مكتبه بالضبط؟!! وفوجئ رجب بماكيت مصغر للميناء دخل به موظفان ووضعاه على منضدة تتوسط الحجرة..وأخذ رجب يشرح بتفصيل أكثر معلوماته عن الميناء، ويحدد أماكن مخازن التشوين التجارية، ورصيف الميناء الذي يستقبل السفن الحربية السوفييتية، وسفن الشحن التي تجيء بالأسلحة المختلفة من ميناء أوديسا السوفييتي على البحر الأسود، ومخازن تشوين السلاح المؤقتة.. وبوابات التفتيش والمداخل والمخارج.
أسرار الميناء
واستمر رجب يشرح أسرار الميناء الحيوي لضباط الموساد، ولم يتركوا أدق التفاصيل الا وسألوه عنها، ثم طلبوا منه الانصراف والعودة صباح اليوم التالي ومعه أربع صور فوتوغرافية وجواز سفره، وبعد أن سلمهم الصور تسلم منهم وثيقة سفر اسرائيلية ذكر بها أنه اسرائيلي من تل أبيب واسمه دافيدماشول، تسلم كذلك تذكرة سفر بالدرجة السياحية- أثينا تل أبيب على شركة العال الاسرائيلية- وأوصله مندوب من السفارة الى المطار وتأكد من صعوده الى الطائرة المتجهة الى اسرائيل.
و جلس رجب في مقعده بالطائرة و جسده يرتجف بشدة، وشرد ذهنه وذهب به الخيال بعيداً وأخذ يفكر في احتمالات المستقبل الذي ينتظره.. وسرعان ما استعاد ثقته بنفسه وهو يرسم في خياله أحلام الثراء الذي ينتظره.. ووجه الفتاة الجميلة التي سيختارها في اسرائيل.. وخطرت بباله فجأة فتاة من بورسعيد اسمها مايسة كانت قد هاجرت مع أهلها الى المنصورة وتعرف عليها في احدى الحفلات العائلية وأحبها بسرعة ايقاع عجيبة وافترقا أيضاً بلا وداع، لماذا خطرت بباله في تلك اللحظة بالذات؟ ضحك بصوت مسموع فرمقته سيدة تجلس بالقرب منه بنظرة تعجب وابتسمت.. وأغمض عينيه ثم نام.. واستيقظ والطائرة تحوم فوق مطار بن غوريون تنتظر الاذن بالهبوط.
واستقبله على سلم الطائرة ثلاثة رجال صافحوه.. ثم أدخلوه سيارة مسدلة الستائر كانت تنتظر أسفل جناح الطائرة.. سلكت به اتجاهاً آخر بعيداً عن بوابة خروج الركاب والجوازات.. ووجد نفسه في شوارع تل أبيب وهو لا يكاد أن يصدق عينيه.. وادخلوه احدى الشقق في منزل يشبه الثكنة العسكرية على أطراف تل أبيب.. كانت تنتظرهم بها فتاة رشيقة صافحته بحرارة.. ورحبت به بالعربية فسره ذلك كثيراً وقالوا له ان زهرة ستظل في خدمته طوال اقامته في تل أبيب.
وتركوه ليستريح بضع ساعات وعادوا اليه ثانية فصحبهم لمبنى المخابرات الاسرائيلية في شارع الملك شاؤول بوسط المدينة.. وكان في استقباله عدد كبير من كبار رجال الموساد، ولعدة ساعات أخضع لتحقيق واستجواب تفصيلي عن كل ما كتبه عن ميناء الاسكندرية.
كان الاجتماع مغلقاً على الضباط المختصين والمحللين الذين أدركوا ميوله للنزعة العسكرية.. وكان ذلك واضحاً جداً من خلال اجاباته الحاسمة.. التي تشبه اجابة عسكرية مدعومة بلهجة صارمة بحتة.. وتغلفها تفاصيل
استراتيجية دقيقة لا ينتبه اليها الرجل المدني الذي لم يجند بالقوات
المسلحة.
رائد في الموساد
وفي نهاية الاجتماع أعد له حفل استقبال كبير في احدى القاعات بالمبنى..
حضره عدد أكبر من ضباط الموساد ورؤساء الأقسام.. وتم منح رجب عبد المعطي رتبة رائد في المخابرات الاسرائيلية، ولم يضيعوا وقتهم كثيراً في مظاهر الترحيب.. اذ أعدوه لدورة مكثفة بدأها أحد الضباط بمحاضرة طويلة عن ذراع اسرائيل الطويلة.. وأنها تجعل العدو يرتجف رعباً، وتمنح الاسرائيليين القدرة على النوم في هدوء، وأن الموساد نجح بقدراته العالية في حل الكثير من مشاكل الدولة اليهودية مما أكسبه شهرة دولية كبرى وهو على استعداد للقيام بمهام أخرى، وجاء ضابط آخر كانت مهمته تدريبية فنية تتعلق باستخدام الشفرة والاستقبال بواسطة موجات خاصة بالراديو.. وبعد أيام أجاد رجب استقبال الرسائل المشفرة وترجمتها بسرعة وكان عليه اجتياز دورة أخرى مهمة.. وجاءته هذه المرة ضابطة شابة تتحدث العربية بطلاقة شرعت في تدريبه على كيفية استخدام الحبر السري في الكتابة وقراءة الرسائل المرسلة اليه بالحبر السري أيضاً..وكذلك استعمال شفرة خاصة للمراسلة لا يكتشفها أحد.
استمرت برامج الدورة التدريبية المكثفة خمسة عشر يوماً كانت عصيبة ومرهقة..وبعد أن اجتاز الاختبارات بنجاح مذهل.. رافقته زهرة الى منتجع خاص آمن يقع على بحيرة طبرية.. وهناك أذاقته من رحيق أنوثتها.. قالتها له صراحة انها هديته من الموساد لاجتيازه الاختبارات وتعاونه مع المخابرات الاسرائيلية بإخلاص.. بل.. وعندما صارحها بأنه يستريح اليها ويود لو صاحبته الى أثينا وعدته بأن تعرض طلبه على رؤسائها..وفي تل أبيب أخبره الضابط المسؤول بأنه سيعود الى الاسكندرية مرة أخرى ليعاود نشاطه السابق في شركة رجب للخدمات البحرية، وأنهم سوف يمدونه بالأموال اللازمة ل احياء شركته وتجديدها.. ولكي يتم تنفيذ ذلك عليه أن يمكث عدة أشهر في أثينا.. ويشيع بين المصريين العائدين الى مصر بأنه أسس أنشطة تجارية رابحة جداً في أثينا.. ويجب عليه أن يتأكد من وصول هذه الأقاويل الى مصر والى أهله بالذات.
إيمان واهم
وتمكنوا خلال تلك المدة من تدريبه على كيفية اعداد التقارير وتلخيص الجمل واختصار عدد الكلمات، هذه الدورة المكثفة زرعت بداخله ايماناً واهماً بأنه صاحب رسالة مهمة أوكلت اليه، وبرغم أنهم بثوا لديه الثقة في مناعة المخابرات الاسرائيلية ضد كشف عملائها في الدول العربية..
واستماتتها في استردادهم حال القبض عليهم، الا أنه أحس بالتعاطف معهم بعد عدة محاضرات عن تاريخ اليهود.. واضطهادهم على مر الأحقاب والعصور، والمحاولات المتكررة لابادتهم التي أسفرت عن تشريدهم ومقتل الملايين منهم، وكانت آخر المحاولات تلك التي قام بها أدولف هتلر الذي أقام معسكرات لتجميع اليهود ثم حرقهم في أفران خاصة لاستئصال كل يهود أوروبا.. وهكذا ملأوا رأسه بأكاذيبهم المضللة لكسب وده واستدرار عطفه تجاههم. وعندما عاد رجب الى أثينا برفقته زهرة، كان بداخله اصرار غريب على
التعاون مع الموساد لحماية اسرائيل وأمنها من التهديد العربي الدائم الذي يدعو اليه جمال عبد الناصر، واصراره على القاء اليهود في البحر ليتخلص منهم.. وترسب بداخله اعتقاد بأن عبد الناصر ما هو الا هتلر
جديد جاء ليبيد اليهود الذين يدافعون عن أمنهم.. وحقهم في أن يعيشوا في سلام.
النهار الكويتية